يستمر الوضع في السودان محيرا وعصيا على الفهم والتحليل، وكأنه بلد خرج من التاريخ. وهل السودان استثناء، أي لا تنطبق عليه قوانين ومنطق الاجتماع والسياسة؟

فالعالم العربي يعيش تحولات جذرية ستطال الجميع، حتى الأكثر أمنا ومن يظن أنه استثناء لغياب أسباب الانتفاضة الشعبية. وتستند هذه الفرضية على حقيقة ناصعة، وهي فقدان هذه الحكومات للشرعية الشعبية والدستورية. فهي مطالبة بعقد اجتماعي جديد مع شعوبها، سواء عن طريق الثورة السلمية أو المسلحة أو الإصلاح التوافقي. وفي كل الأحوال يستحيل استمرار النظام القديم الحاكم، فالتغيير أصبح ضرورة لا تقبل المماطلة والتهرب والمناورة.

 وها هو الرئيس اليمني علي عبدالله صالح يحاور ويناور منذ شهور، دون أن ينال من عنفوان وإصرار ثورة الشباب. ويبدو في السودان البروز الإعلامي لتيار يميل للحل الإصلاحي التوافقي أو الأجندة الوطنية أو اتفاقية القاهرة، ويقف على قمته الحزبان التقليديان الكبيران: حزب الأمة القومي والحزب الاتحادي الديمقراطي. وقد شهدت الفترة لقاءات مكوكية بين هذه الأحزاب والمؤتمر الوطني الحاكم، وصلت إلى درجة تعطيل إعلان التشكيل الوزاري حتى اليوم.

لفت انتباهي تعليق على البيان الذي أصدره حزبا الأمة القومي والمؤتمر الوطني، لإعلان توقف أو فشل المفاوضات في شأن مشاركة حزب الأمة في الحكومة القادمة. وظل هذا التعليق يتكرر عدة مرات وكأنه مطلب قومي، آخرها حديث صحافي مرموق قبل يومين في قناة الشروق. ويقول التعليق إن السودان في الفترة القادمة في حاجة إلى: حكومة رشيدة ومعارضة مسؤولة! فتساءلت في نفسي: هل كنا طوال هذا الوقت نتخبط بلا حكومة رشيدة ولا معارضة مسؤولة؟ فماذا تبقى لنا للنهوض والخروج من هذا الجب لإنقاذ البلاد؟

بالفعل يعيش السودان فراغا سياسيا مرعبا، وأخطر ما في الأمر عدم التعامل معه بجدية وصدق. ولا أدري كيف ساد هذا الوضع، هل للجهل وعدم إدراك الحقائق؟ أم بسبب سوء التقدير لخطورة الأمور؟ وفي الحالتين لن تكون البلاد في مأمن من الكارثة، ولن تصبح الاستثناء في عواصف المنطقة.

ومع أن مثل هذه الكلام صار بدهيا ومكررا لدرجة الضجر، فإن القوى السياسية السودانية على الضفتين، لا تحرك ساكنا في الاتجاه المطلوب والمنقذ. وقد رأينا كيف انتهى حوار من لا يملك مع من لا يستحق. فالمؤتمر الوطني ما زال صاحب شرعية مجروحة، مع أن المعارضة لم تستثمر هذا الخلل بكفاءة وعقلانية، وتدير معركة صحة وشرعية الانتخابات.

وهذا ما يستند اليه النظام في "الكنكشة" في السلطة، وفي العنجهية والبلطجة ضد المعارضة: "بيننا صندوق الانتخابات" كما يقول علي عبدالله صالح، مع انه يعلم - مثل المؤتمر الوطني - كيف كان صندوق الانتخابات! كما يعرض المؤتمر الوطني المشاركة في دولة فاشلة من ناحية السيادة الوطنية، لأنها لم تتمكن من الحفاظ على كل ترابها الوطني الذي ورثناه منذ الاستقلال، ولا تسيطر على أجزاء كبيرة من أراضيها، إذ تجاذبها قوى محلية مسلحة السيادة في جنوب كردفان والنيل الأزرق، وقوى إقليمية (القوات الإثيوبية في منطقة أبيي).

ويوميا تذاع أنباء عن استرداد مدن وقرى في تلك المناطق التي وعدنا النظام قبل شهور بأنه سيسترجعها بعد أيام، وما زالت فيها معارك كر وفر، ولم يتوقف تدفق اللاجئين على الدول المجاورة.

أما الاقتصاد فتكاد المجاعة تحاصر الخرطوم، والنظام ما زال يغالط المنظمات الدولية في شأن خط الفقر، وبالتالي لا نعرف عدد الفقراء في السودان، وهو يمارس نفس هواية التدليس والمغالطات في وصف الأزمة الاقتصادية والمجاعة. والنظام يتلاعب باللغة: الفجوة أو الثغرة الغذائية، أو شح العملات الأجنبية، عوضا عن انعدامها لتغطية بعض الضروريات. ووزير الزراعة عبدالحليم المتعافي يبشرنا بموسم زراعي "أرقط" - حسب لغته - لعدم هطول أمطار.

أما من لا يستحق فهو المعارضة التقليدية، التي يتصدرها - ولا أقول يقودها - الحزبان الكبيران: الأمة القومي والاتحادي الديمقراطي. وهذه يمكن أن تسمى المعارضة بالمشاركة، مثل تجربة الحركة الشعبية لتحرير السودان خلال 2005 إلى 2011.

فقد تعلم المؤتمر الوطني درس: كيف يشاركك آخرون دون أن يحكموا فعليا؟ أي مشاركة بلا سلطة، أو كما يقول المصريون: لابس مزيكة! دون أن يعزف مع الفرقة! وحتى هذه اللعبة لم يمارسها المؤتمر الوطني مع الحزبين، لأنه أولا لا يحترمهما، وثانيا لأن المشاركة مع الحركة جاءت بعد حروب ضارية، ولم تأت منحة أو هدية عيد ميلاد.

والدليل الناصع على عدم الاحترام، هو أن الحزبين كانا يتفاوضان داخل غرفة مع مصطفى عثمان إسماعيل، وفي الخارج كان نافع علي نافع ومندور المهدي يسبان الأحزاب بأقبح الألفاظ ويستخفان بها.

ظللت أكرر أن السياسة صراع قوى وليست حبا رومانسيا، وفيها تؤخذ الدنيا غلابا. وقد أدرك السيدان هذه الحقيقة، بالذات السيد الميرغني في تعامله مع هذا النظام، حين رفع شعار "سلم تسلم". وعلى ضوئها غنى الفنان سيف الجامعة: سلم مفاتيح البلد. وقد تم شحن الجماهير، خاصة حين ارتفع الحديث عن "الاقتلاع من الجذور". فهل يمكن أن تصدق الجماهير السودانية أن صاحب هذا الشعار وحزبه يفاوضون الآن في شأن عدد المقاعد التي يمكن الحصول عليها من نفس النظام الذي طلب منه تسليم مفاتيح البلد؟ هل سيحترمه هذا النظام ويتعامل معه بجدية أم يعتبر الأمر مجرد هزل وتمضية وقت؟

لا أدري هل ما زال السيد الميرغني رئيس طيب الذكر "التجمع الديمقراطي"؟ فأنا لم أسمع بحله. وفي كل الأحوال، ألا يقتضي الأمر توضيحا ونقدا لهذه الانتقالة والتجربة؟ وإذا قلنا إن النظام لا يحترم شعبه ولا الأحزاب، أليس من باب الاحترام أن يخاطب الميرغني الملايين التي أيدت التجمع، ويخبرها عن ظروف توقف خط النضال المسلح، وأيضا يخبرها ماذا يفعل هذه الأيام بمستقبل الوطن؟

ومن الضفة الأخرى، صدر بيان للأحزاب المعارضة، تظن أنه صدر في يوليو 1989 وليس هذا الأسبوع، يتحدث عن: "نقلة نوعية لاستبدال النظام القائم تشمل المعارضين كافة". وقد كشف البيان عن مقترحات تقدم بها المهدي: "تنادي بضرورة الاتفاق على ميثاق وطني جامع، يتناول الحل الشامل لكافة أزمات السودان".

هل يعني هذا أن المعارضة طوال أكثر من اثنين وعشرين عاما، كانت تعمل بلا ميثاق؟ يبدو ذلك، لأن المهدي يقترح أيضا "إنشاء هيكل جديد لاتحاد القوى السياسية والمدنية"، أيضا لا يوجد هيكل! وقد اشتهر حزب الأمة أثناء وجوده بالقاهرة، بنرفزة التجمع بحديثه عن "الهيكلة"! فهل ظل كل هذا الوقت، وهو لم يهيكل شيئا حتى الآن؟ ويختم المقترحات بضرورة الاتفاق على الوسائل!

حقيقة استبشرت خيرا بأن معارضة النظام قد انطلقت، خاصة أن هذه المقترحات تأتي مباشرة بعد فشل مفاوضات المشاركة. هل يمكن لحزب عاقل أو غير عاقل، أن يشرك معارضة كهذه معه في السلطة؟