تزداد الآن التكهّنات حول نتائج تقرير الوكالة الدولية للطاقة الذريّة، بشأن المخاوف من عدم سلمية مشروع إيران النووي. وتتصاعد يوماً بعد يوم التهديدات الإسرائيلية بضربات عسكرية على منشآت إيرانية. وقد سبق هذه التهديدات تصعيدٌ سياسي وإعلامي أميركي، ضدّ طهران. فهل المنطقة على عتبة حربٍ عسكرية ضدّ إيران؟!

لقد جرّبت الولايات المتحدة، خلال إدارة بوش السابقة، نهجاً يقوم على التشدّد في العقوبات على إيران وحلفائها في المنطقة، والمراهنة على تصعيد الأزمات الداخلية في فلسطين ولبنان، والضغط السلبي الكبير على سوريا، إضافةً إلى حشد عسكري أميركي واسع في العراق وفي منطقة الخليج العربي. لكن ذلك كلّه لم يحقّق نتائج سياسية أفضل لواشنطن، ولم يؤدِّ إلى تراجعات سياسية لدى إيران، ولا لدى الأطراف المستهدَفة في تلك المرحلة أميركياً.

ولم تُقدِم إدارة بوش السابقة على عمل عسكري ضدّ إيران، رغم ما كانت عليه الإدارة آنذاك من سياسة غطرسة عسكرية دولية. فالمحاذير كانت كثيرة، خاصّةً لجهة وجود أكثر من 150 ألف جندي أميركي في العراق، هم على مرمى النيران الإيرانية والقوى المؤيّدة لطهران في العراق نفسه. أيضاً، كانت إدارة بوش تحسب حسابات كبيرة لدور سوريا وقوى المقاومة اللبنانية والفلسطينية في المنطقة، في حال أيِّ عملٍ عسكري ضدّ إيران.

فما الذي تغّير الآن حتى أصبح الحديث عن ضربة عسكرية لإيران أمراً محتملاً؟

ربّما يكون في طليعة هذه المتغيرات ما يحدث الآن في المنطقة العربية، من حال انحسار لأولويّة الصراع مع إسرائيل لصالح أولويّة تغيير أنظمة سياسية نتيجة انتفاضات شعبية، تُركّز على الهموم الداخلية، ولا يجد بعضها أدنى مشكلة في الاستعانة بالتدخّل الأجنبي وبدور عسكري مباشر لحلف "الناتو". وأيضاً، انتقل الدور التركي من حال الصديق الودود لسوريا، والمتفاهم كثيراً مع إيران، إلى موقع المواجهة السياسية مع حلفاء الأمس، ورّبما إلى موقع الخصم اللدود.

في المتغيّرات الآن، نجد حكومةً إسرائيلية وضعت، منذ ما قبل ثلاث سنوات، في مقدّمة برامجها المواجهة مع إيران وتهميش الملف الفلسطيني، وهو ما تحقّق فعلاً بسبب تراجعات إدارة أوباما وخضوعها عملياً، في موضوع الملف الفلسطيني، للمواقف الإسرائيلية. وأولويّة هذه الإدارة الآن هي الفوز بفترة رئاسية ثانية، تستوجب عدم الخلاف مع إسرائيل، بل نيل رضاها، كما هو الأمر في المعارك الانتخابية الرئاسية الأميركية. وهذا ما تراه الآن حكومة نتانياهو "ظرفاً أميركياً مناسباً" للقيام بعمل عسكري ضدّ إيران.

فلقد راهنت إسرائيل، في الفترة الماضية، على أن تحصل مواجهة عسكرية عربية خليجية مع إيران، تستفيد هي من نتائجها وتداعياتها على دول المنطقة. لكنّ ذلك لم يحدث، رغم التوتّر السياسي الذي يسود أحياناً بين إيران وبعض دول مجلس التعاون الخليجي. كذلك، راهنت إسرائيل على حدوث حروب أهلية طائفية ومذهبية في البلاد العربية، بحيث يسقط بعدها نهج المقاومة الذي ساد في المنطقة، فتسقط معه حالة العداء مع إسرائيل، ولتنشأ مكان الأوطان العربية دويلات دينية، تصبح "الدولة اليهودية" هي الرأس المسيِّر لها. لكن أيضاً لم تتحقّق بعدُ هذه الآمال الإسرائيلية، رغم وجود ظواهر فتنة في أكثر من بلد عربي.

صحيح أنّ هناك، على ما يبدو، من يؤيّد هذا التوجّه الإسرائيلي داخل الحياة السياسية الأميركية، خاصّةً في مجلسيْ الكونغرس وبعض أجهزة الإدارة، ومع اقتراب موعد الانسحاب الشامل للقوات العسكرية الأميركية من العراق، لكن القرار الرسمي الأميركي لم يصل بعد إلى حدّ تبنّي هذه المقامرة الإسرائيلية.

فالمشكلة الآن تكمن في أنّ واشنطن تعاني حالياً من صعوبة التراجع، ومن تعثّر التقدّم في موقفها من إيران. ففشل سياسة الإدارة الأميركية السابقة، تجاه كلٍّ من إيران والعراق ولبنان وفلسطين، يمتزج الآن مع التراجع الأميركي الحاصل دولياً واقتصادياً، وفي كيفيّة التعامل أيضاً مع نتائج ما يحدث من ثورات وانتفاضات عربية، لم يتّضح بعد مسارها المستقبلي، خاصّةً لجهة السياسات الخارجية.

واشنطن تدرك أنّ المشكلة مع إيران لا تُحَلّ بمزيد من قرارات مجلس الأمن، بل بأحد طريقين: الحرب، أو التفاوض. طبعاً، تجنّبت إدارة أوباما خيار الحرب على إيران، بسبب محاذيره العسكرية والسياسية والاقتصادية، لكنّها تجد نفسها أمام الخيار الآخر (أي التفاوض)، في ظلّ رفضٍ إيراني للشروط التي تضعها واشنطن والدول الغربية.

على الجهة الأخرى، تعرف الحكومة الإيرانية أنّ الجهود الأميركية الجارية الآن لتجميع مزيد من القوى الدولية، من أجل الضغط على الموقف الإيراني، هي جهود من أجل انتزاع موافقة إيرانية على صيغ تسويات لأزمات عديدة، وليس فقط حول الملف النووي الإيراني. نقطة الضعف الكبيرة، في الموقف الأميركي المتشدّد من طهران، كانت في عدم وجود "مخالفات" إيرانية ثابتة في القوانين الدولية، تستحقّ المزيد من "العقوبات".

فإيران تؤكّد عدم سعيها لامتلاك سلاح نووي، وعلى سلمية برنامجها النووي، وهي موقِّعة على معاهدة حظر انتشار السلاح النووي، وتسمح لمفتّشي الوكالة الدولية للطاقة الذرّية بتفقّد منشآتها. لذلك يمكن الآن اعتبار تقرير "الوكالة الدولية للطاقة الذرية"، نقطة تحوّل في كيفيّة التعامل الأميركي والغربي مع الملف الإيراني.

كلُّ ذلك يحصل بينما إسرائيل، التي تملك السلاح النووي، ترفض دعوة الرئيس أوباما لها للانضمام لمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، وترفض طبعاً السماح لأيِّ جهة بتفقّد مواقعها النووية.

إنّ إدارة أوباما تخضع الآن لضغوط داخلية أميركية، من أجل سياسة أكثر تصلّباً مع إيران. وهذه الضغوط مصدرها مزيج من قوى الحزب الجمهوري المعارض، ومن التيّار الديني المحافظ في أميركا، ومن تأثيرات اللوبي الإسرائيلي، المؤيّد لتوجّهات الحكومة الإسرائيلية الحالية القائمة على أنّ الأولوية يجب أن تكون للملف الإيراني وليس للملف الفلسطيني، وبأنّ على إدارة أوباما التحرّك ضدّ طهران، وليس التفاوض معها الآن.

 واقع الحال هو أنّ واشنطن تحتاج لطهران في توفير الظروف الأمنية والسياسية المناسبة لخروج القوات الأميركية من العراق، كما تحتاجها في احتمالات تداعيات الحرب في أفغانستان، وواشنطن تدرك فشل إدارة بوش في مواجهتها السياسية والأمنية مع إيران، وفي سلبيات سياسة العزل والعقوبات التي مارستها كل الإدارات الأميركية السابقة منذ قيام الثورة الإيرانية.

في السنوات الماضية، كان كل طرفٍ يسعى لتحسين وضعه التفاوضي بأشكال مختلفة، ولا يبدو أنّه يريد دفع الأمور إلى مزيدٍ من التأزّم. أمّا الآن، فإنّ الأمور لم تعد تحتمل التأجيل، وهي تقترب من لحظة الحسم الذي تتمنّاه إدارة أوباما سياسياً، بينما تحاول إسرائيل أن تجعله حسماً عسكرياً يورِّط، مرّةً أخرى بعد العراق، الولايات المتحدة في حربٍ تخسر فيها أميركا والعرب وإيران، وتكون إسرائيل الرابح الوحيد من نتائجها.

هي مراهناتٌ مشترَكة مع إسرائيل من أكثر من طرف دولي وإقليمي، على تصعيد أجواء التوتّر السياسي المذهبي في المنطقة، وعلى توظيف أخطاء عربية هنا أو إيرانية هناك.. لكن من الذي سيتمكّن من تدارك تفاعلات التصعيد العسكري المحتمل ضدّ إيران، وما قد ينتج عنه من حروبٍ إقليمية وصراعاتٍ عربية داخلية؟!