هو أمرٌ ملفت للانتباه، ما حدث ويحدث في مصر وتونس واليمن. ففي هذه البلدان الثلاثة كان الجيل الجديد، غير الحزبي أو المنظّم سياسياً، هو أساس الحراك الشعبي الذي حدث في كلٍّ منها.

والذي أدّى إلى تغييراتٍ في الحكم والقوى السياسية الحاكمة. لكن نجد إلى الآن أنّ هذه القوى الشبابية الثائرة لم تقتطف ثمرة هذه الانتفاضات الشعبية، بل حصدت النتائج السياسية قوًى لها تاريخها العريق في العمل السياسي وفي المعارضة، لكنّها لم تقد حتماً الانتفاضات الشعبية، ولم تُشعل شرارتها ولم تصنعها، فهي حصدت (ولو بأسلوبٍ شرعي) ما زرعه غيرها من قوًى شبابية لم تكن أصلاً مسيّسة، ولعّلها لا تجد الآن في الحكومات الجديدة من يُمثلها أو يُعبّر عن أهدافها وطموحاتها.

هي معضلةٌ ترمز أيضاً إلى حال كثير من البلدان العربية الأخرى، حيث يحصل حراكٌ شعبيٌّ شبابي بمعظمه، لكن بلا وضوح في القيادة والهُويّة الفكرية والسياسية، وإذا حصل أحياناً هذا الوضوح، نراه بعيداً عن السّمة الوطنية العامة، ونافراً من الهوية العربية، ومتّصفاً بالفئوية الطائفية والحزبية.

إنّ المراهنة دائماً هي على الأجيال الشّابة ودورها الفاعل في صناعة المستقبل. فأيُّ جيلٍ عربي جديد هو الذي نأمل منه الآن إحداث التغيير نحو الأفضل في الأوطان العربية؟

إنَّ "الجيل القديم" في أيّ مجتمع، هو بمثابة خزّان المعرفة والخبرة الذي يستقي منه "الجيل الجديد" ما يحتاجه من فكر يؤطّر حركته ويرشد عمله، فيصبح "الجيل القديم" مسؤولاً عن صياغة "الفكر"، بينما يتولّى "الجيل الجديد" صناعة "العمل والحركة" لتنفيذ الأهداف المرجوّة.

هنا يظهر التلازم الحتمي بين الفكر والحركة في أي عمليّة تغيير، كما تتّضح أيضاً المسؤوليّة المشتركة للأجيال المختلفة. فلا "الجيل القديم" معفيّ من مسؤوليّة المستقبل، ولا "الجيل الجديد" براء من مسؤوليّة الحاضر. كلاهما يتحمّلان معاً مسؤوليّة مشتركة عن الحاضر والمستقبل معاً. وبمقدار الضخّ الصحيح والسليم للأفكار، تكون الحركة صحيحة وسليمة من قبل الجيل الجديد نحو مستقبل أفضل.

المشكلة الآن في الواقع العربي الرّاهن، هي أنّ معظم "الجيل القديم" يحمل أفكاراً مليئة بالشوائب والحالات الذهنيّة المرَضيّة الموروثة، التي كانت في السابق مسؤولة عن تدهور أوضاع المجتمعات العربيّة وتراكم التخلّف السياسي والاجتماعي والثقافي في مؤسّساتها المختلفة. فالمفاهيم المتداولة الآن في المجتمعات العربيّة هي التي تصنع فكر الجيل الجديد، وهي التي ترشد حركته.

لذلك كنّا نرى الشّباب العربي، قبل العام الماضي، يتمزّق بين تطرّف في السّلبيّة واللامبالاة، وتطرّف في أطر فئويّة بأشكال طائفيّة أو مذهبيّة، بعضها استباح العنف بأقصى معانيه وأشكاله. لكن حينما يبحث بعض الشّباب العربي المعاصر عن أطر فاعلة للحركة السياسية السلمية المنظمة، يجدون في معظم الأحيان أمامهم جماعات تزيد في أفكارها وممارساتها من حال الانقسام في المجتمع.

أو قد يدفع بعضها بالعناصر الشّابة إلى عنف مسلّح ضدّ "الآخر" غير المنتمي لهذه الجماعة أو طائفتها أو مذهبها! فالمفاهيم، التي تحرّك الآن الجيل العربي الجديد، هي مفاهيم تضع الّلوم على "الآخر" في كلّ أسباب المشاكل والسلبيّات.

ولا تحمل أي "أجندة عمل" سوى إسقاط أو مواجهة "الآخر"، الذي قد يكون في الحكم أو المعارضة أيضاً. وهي بذلك مفاهيم تهدم ولا تبني، تفرّق ولا توحّد، وتجعل القريب غريباً والصّديق عدوّاً!.. فيصبح الهمّ الأوّل للجيل العربي الجديد هو كيفيّة التمايز عن "الآخر" وهدمه، لا الحوار معه للبحث عن كلمةٍ سواء.

ربّما تكمن مشكلة الشّباب العربي المعاصر في أنّه لم يعش حقبات زمنيّة عاشها من سبقه من أجيال أخرى معاصرة، كانت الأمّة العربيّة فيها موحّدةً في مشاعرها وأهدافها وحركتها، رغم انقسامها السياسي على مستوى الحكومات. مراحل زمنيّة كان فرز المجتمع فيها يقوم سلمياً على اتجاهات فكريّة وسياسيّة، لا على أسس طائفيّة أو مذهبيّة أو حتّى إقليميّة.

لكن سوء الممارسات والتجارب الماضية، إضافة إلى العطب في البناء الدستوري الدّاخلي والتآمر الخارجي، أدّى كلّه للإساءة إلى المفاهيم نفسها، فاسْتُبدِل الانتماء القومي والوطني بالهويّات الطّائفيّة والمذهبيّة والمناطقيّة، وأضحى العرب في كل وادٍ تقسيميٍّ يهيمون، ويقولون ما لا يفعلون!

هناك الآن ثلاثة عناصر تصنع الحاضر العربي: أوّلها وأهمّها، اهتراء الأوضاع السياسية الداخلية بوجهيها الحاكم والمعارض. وثانيها، التدخّل الأجنبي في شؤون الأوطان العربية. وثالثها، هو غياب المشروع الفكري النهضوي الجاذب لشعوب الأمَّة العربية ولجيلها الجديد الباحث عن مستقبل أفضل.

صحيحٌ أنّ هناك خصوصياتٍ يتّصف بها كلُّ بلدٍ عربي، لكن هناك أيضاً مشاكل مشتركة بين أقطار الأمَّة العربية، وهي مشاكل تنعكس سلباً على الخصوصيات الوطنية ومصائرها. لذلك هناك حاجةٌ ماسَّة الآن لخطابٍ عربيٍّ نهضويٍّ مشترَك يستقطب الجيل الجديد، كما هي الحاجة للخطاب الوطني التوحيدي داخل الأوطان نفسها. أمرٌ مهمٌّ جداً أيضاً، هو أن لا يتمّ فصل المسألة الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، عن قضايا الوحدة الوطنية والتحرّر من هيمنة الخارج.

والتأكيد على الهويّة العربية للأوطان وللمواطنين في عموم البلاد العربية. فالإدارات الأميركية المختلفة كانت مع الديمقراطية في العراق ولبنان والأراضي الفلسطينية المحتلّة، بمقدار انفصال هذه "الديمقراطيات" عن قضية "التحرّر الوطني" وعن "مسألة الهوية العربية".

وستكون الإدارة الأميركية الآن مع الديمقراطية في كل بلد عربي، بمقدار بُعد هذه "الديمقراطية" عن "التحرّر الوطني" و"الهُويّة العربية"، وبمدى التزام الأنظمة الجديدة في بعض هذه الدول، بالاتفافات السابقة مع واشنطن، وبما لا يؤثّر سلباً على العلاقات التي كانت قائمة بين هذه البلدان وبين إسرائيل! أليس مستغرباً مثلاً أن يتحدّث رئيس البرلمان المصري الجديد الدكتور سعد الكتاتني، عن قضايا داخلية عديدة في مصر.

لكن دون ذكر كلمة واحدة عن السياسة الخارجية المنشودة لمصر أو عن هُوية مصر ودورها العربي؟! إنّ القضايا التي تُحرّك الشارع العربي الآن، تتمحور حول "الإصلاحات السياسية والاقتصادية" وقضايا الغلاء والفقر وفساد الحكم وانعدام فرص العمل أمام الجيل الجديد.

وهي كلّها مسائل مرتبطة بالسياسة "الداخلية"، وهذا ما تدركه دول "حلف الناتو" ولا تمانع في تغييره. فما يهمّ الحاكم في واشنطن ليس من يحكم في بلدان المنطقة، بل بقاء هذه البلدان تسبح في الفلك الأميركي، والوفاء بالالتزامات التي كانت عليها الحكومات السابقة تجاه أميركا وتجاه إسرائيل أيضاً.

الشباب العربي استفاد ويستفيد من تجارب بعضه البعض في بلدان عربية مختلفة، وقد اتّبع إلى حدٍّ ما أساليب التحرّك نفسها، ولم ينتظر الأحزاب والحركات السياسية من أجل المبادرة والتحرّك والانتفاضة ضدّ النظام الحاكم.. كلُّ ذلك أمر جيد ومهم، لكن الثورات وحركات التغيير ليست هدمَ ما هو موجود فقط، بل هي بناءٌ لما هو مطلوب.

وهذا يعني عملياً ضرورة الربط والتلازم بين الفكر والقيادة والأسلوب. هنا مخاطر تغييب دور الفكر في عملية التغيير التي يقودها الجيل العربي الجديد، ومساوئ عدم الوضوح في ماهيّة "الأفكار" أو طبيعة "القيادات" التي تقف خلف "الأساليب" الجيّدة، التي يقوم بها الشباب العربي المنتفض في أكثر من وطن عربي،.

إذ لا يجوز أن يرضى هؤلاء الشباب الذين يضحّون الآن بأنفسهم، أن تكون "أساليبهم" السليمة هي لخدمة أفكار ومشاريع وقيادات غير سليمة، تسرق تضحياتهم وإنجازاتهم الكبرى، وتُعيد تكرار ما حدث في السابق في المنطقة العربية، من تغييراتٍ كانت تحدث من خلال الانقلابات العسكرية أو الميليشيات المسلّحة، ثم تتحوّل إلى أسوأ ممّا كان قبلها من واقع.