لا أعلم إنْ كانت مصادفةً أم هي خطوة متعمّدة، أن تكون الانتخابات الرئاسية الأميركية متزامنةً دائماً مع ما يُعرف باسم "السنة الكبيسة"، التي يكون فيها الشهر الحالي (شباط/ فبراير) 29 يوماً وتكون أيام السنة 366 يوماً، أي بزيادة يومٍ واحد عن السنوات العادية الأخرى. ربما هي رغبةٌ في الحصول على يوم إضافي واحد في نهاية عهد كلّ رئيسٍ أميركي، يساعده على ضمان دخول اسمه في التاريخ إذا كان في نهاية ولايته الثانية، أو ضمان عدم خروجه من "البيت الأبيض"، إذا كان في ولايته الأولى.

وإذا كانت "السنة الكبيسة" كل أربع سنوات، هي فأل خير للحاكم في "البيت الأبيض"، فإنّها مبعث توجّس وحذر ومخاوف لعديدٍ من دول العالم، بحكم اختلاط المصالح الشخصية والحزبية والسياسية في المعارك الانتخابية الأميركية، مع الدور الريادي الكبير للولايات المتحدة في أزماتٍ عالمية مختلفة.

وقد يكون العام الحالي 2012 أكثر السنوات "الكبيسة" تأثيراً على مصير حكومات وكيانات وأدوار لقوى كبرى، في أمكنة مختلفة من العالم. فسيشهد هذا العام، إضافةً للانتخابات الرئاسية الأميركية، انتخابات رئاسية في روسيا الاتحادية، حيث تُشكّل عودة فلاديمير بوتين للرئاسة مصدر إزعاجٍ كبير لواشنطن وللدول الفاعلة في "حلف الناتو".

كذلك هذا العام هو عام الانتخابات الرئاسية في فرنسا، حيث يسعى الرئيس الحالي ساركوزي للحكم فترةً أخرى، موظّفاً "إنجازاته" وسياسته الخارجية، خاصّةً في ليبيا وتجاه سوريا، كما أنّ هذا العام أيضاً هو عام الانتخابات النيابية في إيران، وعام انتخابات الرئاسة في مصر.. واللائحة تطول طبعاً على امتداد الشرق والغرب. ففي هذا العام، هناك من يراهن على التجديد لنفسه في الحكم.

بينما يدفع بآخرين للخروج من الحكم أو لعدم الوصول إليه. وهناك من يريد تقوية دور دولته، لكن على حساب إضعاف دور قوى أخرى. وهناك من يُحصّن وحدة مجتمعاته، لكنّه في الوقت نفسه يعمل على تفكيك مجتمعات أخرى. وفي هذا العام "الكَبيسي" الحاسم تظهر البلاد العربية، ومنطقة الشرق الأوسط عموماً، كسَاحة أساسية لهذه التحوّلات الإقليمية والدولية، وللصراعات البينيّة والخفيّة بين كبار الأطراف المعنيّة.

فالعالم يشهد اليوم هبوطاً متدرّجاً لدور الإمبراطورية الأميركية، مقابل تصاعدٍ ملحوظ لدورٍ روسي، قاده بوتين في فترة حكمه الأولى، متحالفاً مع الصين والهند ودول أخرى في آسيا وأميركا اللاتينية.

إنّ ما حدث ويحدث من توتّر وخلافات بين واشنطن وموسكو، ليس غيْمة عابرة تصفو بعدها العلاقات بين البلدين. لكن أيضاً، ما نشهده من أزمات سياسية بين البلدين، ليس حرباً باردة تقليدية بين القطبين الدوليين. فأبرز سمات "الحرب الباردة" التي سادت بين موسكو وواشنطن، خلال النصف الثاني من القرن العشرين، كانت قائمةً على مفاهيم ايديولوجية فرزت العالم بين معسكرين: شيوعي شرقي.

ورأسمالي غربي، وهذا الأمر غائب الآن عن الصراع الروسي/ الأميركي. و"الحرب الباردة" قامت كذلك على تهديدات باستخدام السلاح النووي بين الطرفين (كما حدث في أزمة صواريخ كوبا مطلع الستينات)، وعلى حروبٍ ساخنة مدمّرة في دول العالم الثالث، في سياق التنافس على مواقع النفوذ، وهي حالات بعيدة كلّها الآن عن واقع الأزمات الراهنة بين موسكو وواشنطن.

فأولويات روسيا الآن هي أمنها الداخلي وأمن حدودها المباشرة في أوروبا، وإصرارها على مواجهة أيّة محاولة لعزلها أو لتطويقها سياسياً وأمنياً، كما تحاول واشنطن أن تفعل من خلال توسيعها لعضوية حلف الناتو، وعبر مشروع الدرع الصاروخية في أوروبا الشرقية، ومن خلال تحجيم النفوذ الروسي في الشرق الأوسط.

ورغم التباين والخلافات القائمة حالياً بين موسكو وواشنطن، فإنّ الطرفين يحرصان على إبقاء الصراع بينهما مضبوطاً بسقفٍ محدد، خاصّةً في ظلّ الضغط الأوروبي العامل في هذا الاتّجاه. فأوروبا هي بيضة الميزان الآن في العلاقات الروسية/ الأميركية، وهناك عدّة دول أوروبية (غربية وشرقية) لا تجد مصلحةً لها في تصاعد التوتّر بين موسكو وواشنطن.

ولا تريد أن تكون في حال الاضطرار للاختيار بين هذا الطرف أو ذاك. فروسيا الآن هي مصدر هام للطاقة في أوروبا، وهناك مصالح تجارية واقتصادية كبيرة تنمو بين الاتحاد الروسي والاتحاد الأوروبي. وهذا الموقف الأوروبي، هو العنصر الأهم الآن في ضبط العلاقات الروسية/ الأميركية. وحتى على مستوى الشارع الأوروبي، ليس هناك استعداد لعودة أجواء الفرز والانقسام التي كانت كابوساً على أوروبا خلال حقبة "الحرب الباردة" في القرن الماضي.

فالصراع الدائر الآن بين موسكو وواشنطن، هو صراع مصالح ونفوذ، وليس صراعاً إيديولوجياً، لكنّه صراعٌ سياسي حاد فيه الكثير من ذكريات "الحرب الباردة" بين "الشرق" و"الغرب". وخطاب بوتين، في مؤتمر ميونيخ عام 2007، كان مؤشّراً هامّاً عن الرؤية الاستراتيجية الروسية للسياسة الأميركية ولكيفيّة التعامل معها، ومنذ ذلك الوقت سارت السياسية الروسية وفق هذه الرؤية.

أدركت موسكو آنذاك أنّ الوجود العسكري الأميركي في منطقة الخليج العربي وفي أفغانستان وفي العراق وفي جمهوريات آسيوية إسلامية، هو بمثابّة تطويق شامل للأمن الروسي، يتكامل مع تمدّد حلف "الناتو" في أوروبا الشرقية، ومع محاولة نشر منظومة الدرع الصاروخية.

كذلك حرصت روسيا، ومعها الصين، على رفض التصعيد الغربي والتهديدات العسكرية ضدّ إيران، بل على رفض تشديد العقوبات الاقتصادية في مجلس الأمن ضدّ طهران. وهذا الموقف الروسي/ الصيني المشترك تجلّى أيضاً في مجلس الأمن تجاه الأوضاع في سوريا.

حيث تعتبر موسكو أنّ أحد أهداف التدخّل الغربي في سوريا هو بناء نظام سياسي جديد ينهي العلاقات الخاصة مع روسيا، كما حدث العام الماضي في ليبيا، وكما حدث سابقاً في العراق وفي مصر. أمّا الصين فهي واعيةٌ أيضاً لمحاولات منع استمرار نموّها ونفوذها الاقتصادي العالمي، والسعي الأميركي الدؤوب الآن للهيمنة على منطقة المحيط الهادئ، إضافةً للتواجد العسكري الأميركي في معظم مناطق تصدير النفط للصين.

فما يحدث هذا العام في بعض البلدان العربية، وما حدث العام الماضي، وما قد يحدث مع إيران، ليس فقط "مسائل داخلية عربية" أو "مشكلة الملف النووي الإيراني"، إذ هو أيضاً موسم حصاد لسياسات جرى زرع بذورها في العقد الماضي، وحان موعد قطاف ثمارها. فمنطقة "الشرق الأوسط" الآن ساحة تصفية حسابات من أجل بناء توازنات دولية جديدة، بعد ما حدث لدى الغرب في العقد الماضي من تراجعات، وما حصل من تقدّم عند المنافسين الأقطاب في الشرق الروسي والصيني.

كذلك، هذا العام هو أيضاً عام تصفية حسابات وردّ اعتبار للمؤسسة الحاكمة في إسرائيل، بعد فشلها في حربيها عامي 2006 و2008 على المقاومتين اللبنانية والفلسطينية. وهذا يعني أيضاً تعاملاً إسرائيلياً مع داعمي المقاومة ضدّها في إيران وسوريا. هناك مراهناتٌ دولية كثيرة على جملة متغيّرات ستحدث هذا العام، وستكون محصلة لتغييرات في الحاكمين أو لاستمرار بعضهم.

ولا يمكن التنبّؤ حتى الآن بمصير هذه التغييرات في الحكم أو بمصير المتغيرات السياسية التي ستتبعها، لكن يمكن القول إنّ البلاد العربية تحديداً هي الآن في حال "تقرير المصير" لكياناتها الوطنية ولأنظمة الحكم السياسي فيها. والمشكلة أنّ الشعوب العربية لن تملك وحدها "حقّ تقرير مصيرها"، فالاستقواء بالخارج والمراهنة عليه، أصبحا سمةً مشتركة عند معظم الحاكمين والمعارضين!