القاعدة العلمية تقول: ما يُبنى على خطأ يؤدّي إلى نتائج خاطئة. هكذا هو الآن حال الأوضاع العربية كلّها. هو حال معظم الحكومات، كما هو أمر معظم المعارضات. فحينما يتمّ بناء دول على أسس خاطئة، فإنّ تلك دعوة للتمرّد ولمحاولات الإصلاح. لكن في المقابل، حينما تكون حركات التغيير الإصلاحية هي نفسها مبنيّة على أفكار أو أساليب خاطئة (أو الحالتين معاً)، فإنّ ذلك يؤدّي إلى مزيدٍ من تراكم الأخطاء في المجتمع، وإلى شيءٍ من الإحباط واليأس لدى عامّة الناس.

لو كانت هناك مراكز استطلاع موثوقة، قادرة على الوصول لعموم البلدان العربية، لتبيّن مدى الشعور بالقرف والاشمئزاز لدى معظم الجماهير العربية، ممّا يحدث الآن في المنطقة العربية.

فالأمل العربي بالتغيير نحو الأفضل، كان كبيراً في مطلع العام الماضي بعد ثورتي تونس ومصر، ثم بدأ هذا الأمل يضمحل شيئاً فشيئاً، حتّى في البلدان التي شهدت تغييراتٍ في حكامها، لكن لم تشهد بعدُ تغييراتٍ فعلية في أنظمتها ومجتمعاتها، بل هي تخاف الآن على وحدة هذه المجتمعات وعلى مستقبل هذه الأوطان.

صحيحٌ أنّ الانتفاضات الشعبية العربية قد كسرت جدار الخوف السميك، الذي أقامته أنظمة عربية في جناحي الأمَّة في المشرق والمغرب، لكن يبدو أنّ الحكومات تقيم هذا الجدار على طرف هاوية، فيكون إسقاطه من قبل الشعوب مدخلاً بعد ذلك إلى السقوط في الهاوية.

 وهذا هو بيت القصيد في مشكلة ما حدث ويحدث من حراك شعبي عربي جارف. فـ"الحركة بركة" إذا كانت مضبوطة الأسلوب والنتائج، ومتحرّرة من أيِّ قيدٍ أو دفعٍ خارجي. وتنجح "الحركة" في تحقيق غاياتها، عندما تتحرّك بعد إدراكٍ سليم لظروفها وإمكاناتها، بحيث لا تُستغلّ أو تُسرَق أو يتمّ حرفها عن مسارها المرغوب شعبياً.

إنّ ممارسات بعض قوى المعارضة العربية التي وصلت الآن للحكم، لم تختلف عن أساليب الحكام السابقين. كذلك فإنّ ما حدث في ليبيا، وما يحدث الآن في سوريا، يضع علامات استفهامٍ كبيرة عن دور الخارج في صناعة التغيير المحلي المنشود، كما يُظهر أيضاً الفارق الكبير مع ما حدث في تونس ومصر من تغيير سلمي شمل عامّة الناس، رغم العنف الذي مارسته السلطات آنذاك في حق المتظاهرين السلميين.

هي مراهنة خطيرة جداً في المجتمعات العربية، أن يحدث التغيير بواسطة التحرّك الشعبي المسلّح، لأنّ نتيجته حروب أهلية وتفتيت كيانات، لا إسقاط أنظمة فقط. ألم تتعلّم الأمَّة العربية بعد على مدار نصف قرنٍ من الزمن، من دروس تجارب لبنان في نهاية الخمسينات، ثم اليمن في مطلع الستينات، ثم لبنان من جديد في منتصف السبعينات، ثم الجزائر في مطلع التسعينات، ثم السودان والعراق والصومال..؟!

كذلك هي مراهنة خاطئة أيضاً ومميتة أحياناً، عندما تُمارس الحكومات العنف الدموي القاسي ضدّ قطاعاتٍ من شعبها، حتّى لو كان وسط هذه القطاعات مندسّون وإرهابيون. فالعنف المسلّح الداخلي (مهما كان مصدره) يُولّد مزيداً من الأزمات الأمنية والسياسية، ولم ينجح في أيِّ مكان بتحقيق مجتمعات موحّدة مستقرّة.

من المفهوم استخدام العنف المسلح في مواجهة اعتداء خارجي، أو من أجل تحرير أرضٍ محتلة، لكن لا يجوز ولا ينفع هذا الأسلوب في تحقيق تغيير سياسي، أو في الحفاظ على نظام سياسي. فالخطأ من جهة لا يبرّر الخطأ من الجهة الأخرى، والخطأ زائد خطأ لن يعادل صحّاً.

إنّ واقع الحال العربي اليوم، يتطلّب فعلاً إصلاحاتٍ لأنظمة وحكومات، لكن يحتاج هذا الواقع أيضاً إلى حركاتٍ إصلاحية وتصحيحية داخل قوى المعارضة العربية نفسها، التي تقود الآن الحراك الشعبي العربي.

ولعلّه من المهمّ كثيراً في هذه المرحلة، الفرز في الشعارات وفي القوى المنادية بها. فهل الهدف هو إسقاط أنظمة معينة فقط، أم هو تحقيق غايات الإصلاح والتغيير الجدي المنشود في عموم المنطقة العربية؟ فالضمانة ليست بتغيير أشخاصٍ هنا وحكّامٍ هناك، بل هي تكون في تنفيذ مضامين الإصلاح المنشود، إذ ما الفارق بين الانقلابات العسكرية التي أوصلت بعض الحكّام للحكم، وبين من ينقلبون اليوم عليها بفعل عنفٍ مسلح مدعومٍ عسكرياً من الخارج، وربّما يمارسون مستقبلاً ما مارسته هذه الحكومات من أساليب!

الآن هناك من يتحدّث عن مسؤولية الحكومات فقط في تدهور الأوضاع كلّها، وهناك في المقابل من يتحدّث فقط عن مسؤولية القوى الخارجية، بينما في حقيقة الأمر الكلّ مسؤولٌ عن الكل، ومن يعفي نفسه من المسؤولية هو غير جدير أصلاً بتحمّل مسؤولية قيادة حكم أو معارضة.

ورغم ومضات الأمل التي تظهر بين فترةٍ وأخرى عربياً، واستمرار إرادة العمل من أجل التغيير على أكثر من ساحة عربية، فإنّ المراوحة في المكان نفسه (إن لم نقل التراجع)، هي السمة الطاغية الآن على الأوضاع العربية.

وقد تعرّضت أممٌ كثيرة خلال العقود الماضية إلى شيء من الأزمات التي تواجه العرب الآن، كقضايا سوء الحكم وما فيه من استبداد وفساد، وما ينتج عن ذلك من مشاكل التخلّف الاجتماعي والاقتصادي وغياب للحريات العامة، أو أيضاً ما واجهه بعض الأمم من مشكلة الاحتلال الأجنبي والتدخّل الخارجي، أو مسألة التجزئة السياسية بين أوطان الأمّة أو الحروب الأهلية في بعض أرجائها..

لكن من الصعب أن نجد أمّةً معاصرة امتزجت فيها، في آنٍ واحد، كلّ هذه التحدّيات، كما هو حاصلٌ الآن على امتداد الأرض العربية.

فخليط الأزمات يؤدّي إلى تيهٍ في الأولويات، وإلى تشتّت القوى والجهود، وإلى صراع الإرادات المحلية تبعاً للتحالفات الإقليمية والدولية، أو بسبب طبيعة الخطر المباشر، الذي قد يكون ثانوياً لطرفٍ من أرجاء الأمّة، بينما هو الهمّ الشاغل للطرف الآخر.

أهي صدفةٌ سياسية أن تتزامن كل تلك التحدّيات على الأمّة العربية، مع ارتفاع التعبئة الطائفية والمذهبية والإثنية في غالبية البلاد العربية؟!

ففي غياب المشاريع الوطنية التوحيدية الجادّة داخل البلاد العربية، على مستوى الحكومات والمعارضات، وفي غياب المرجعية العربية الفاعلة، أضحت المنطقة العربية مفتوحةً ومشرّعة، ليس فقط أمام التدخل الأجنبي، بل أيضاً أمام مشاريع التقسيم والحروب الأهلية، التي تجعل المنطقة كلّها تسبح في الفلك الإسرائيلي.

لا خلاف في البلاد العربية على أهمّية وضرورة الإصلاح السياسي والاجتماعي.. لكن الخلاف هو على الوسائل الممكنة لتحقيقه. فالإصلاح الشامل المطلوب يحتاج إلى ضغوط سياسية وشعبية تراكمية وتكاملية.

لا إلى عملية انقلابية ضدّ أشخاص فقط.. ووسيلته الناجعة هي الحركة السلمية المتواصلة، مهما كانت درجة عنف السلطات، فأسلوب القوّة والعنف المسلح، من قبل الحاكمين أو المحكومين، وبوجود مشاريع إقليمية ودولية مستفيدة منه أو متصارعة حوله، سيكون هو شرارة إشعال الأوطان التي قد تصل بها إلى الحروب الأهلية المدمّرة للجميع.