تقف سوريا الآن، كياناً وحكومةً وشعباً، أمام خياراتٍ صعبة لا يُعبّر أيٌّ منها عن «رغبات» أيِّ طرفٍ معنيٍّ الآن بتطوّرات الأزمة السورية. فالفارق كبير بين المرغوب فيه والممكن فعله.

فربّما «ترغب» الحكومة السورية بأن تنتهي هذه الأزمة سريعاً دون اضطرار لتغييراتٍ جوهرية في بنية الحكم، أو في التحالفات والمواقف الخارجية.

من جهةٍ أخرى، «ترغب» بعض أطياف المعارضة أن تكون الأحداث الأمنية الدموية الجارية في سوريا مقدّمةً لتدخل خارجي ولتحوّلاتٍ سياسية جذرية في الداخل السوري، وفي النهج الذي كانت عليه سياسة دمشق الإقليمية والدولية. على صعيدٍ آخر، «ترغب» الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية أن تحقّق الأحداث الداخلية في سوريا ما عجزت عن تحقيقه سياسات العزل والعقوبات في العقد الماضي من دفع دمشق إلى تغيير تحالفاتها الإقليمية، خاصّةً لجهة العلاقة القوية مع طهران، وإلى وقف دعم حركات المقاومة ضدّ إسرائيل في لبنان وفلسطين.

 فقد كانت سياسة واشنطن، لعدّة سنوات، ساعيةً إلى تغيير سلوك الحكم في دمشق أكثر من اهتمامها بتغيير الحكم نفسه، إذ أنّ معيار المصالح الأميركية هو الأساس بغضِّ النّظر عن طبيعة الحكومات هنا أو هناك.

كذلك كانت واشنطن ودول غربية أخرى تحبّذ وترغب بأن تكون تركيا هي واجهة الصدام العسكري بين «حلف الناتو» والقوات الحكومية السورية، كاستكمالٍ لدور تركيا السياسي الحاضن لبعض قوى المعارضة السورية ولعناصر عسكرية متمرّدة على النظام السوري. وربّما كان في تقديرات «حلف الناتو» أنّ ذلك مناسبٌ جداً في حال تدخّلت إيران لصالح حليفها السوري، بحيث يكون الصراع العسكري في المنطقة هو «إسلامي-إسلامي» و«عربي-عربي» من خلال ما سيحدث من فرزٍ بين دول وأطراف عربية وإسلامية داعمة لهذا الطرف أو ذاك.

وكانت «الرغبات» بذلك المشروع منطلقة أصلاً من الخلاف الحاد الحاصل الآن بين دمشق وأنقرة، ومن دعم الحكومة التركية لجماعات حزبية سورية إسلامية لها تاريخ طويل من الصراع مع الحكم السوري، ممّا يساعد أيضاً على استخدام هذه الجماعات كقوّة ضغطٍ على القوى والمنظمات الشعبية العربية المعروفة بعلاقتها الجيدة مع دمشق، خاصّةً في فلسطين ولبنان.

وفي التمنّيات أو الرغبات الأميركية والأوروبية أن يكون ما سبق ذكره هو البديل الأفضل عن المواجهة العسكرية الغربية المباشرة مع إيران، والتي هي مُكلفةٌ جداً للغرب وغير مضمونة النتائج. لقد كانت السياسة «الأطلسية» السابقة تراهن على إضعاف إيران من خلال استقطاب دمشق ومغازلتها، وعزل المقاومتين اللبنانية والفلسطينية، وتشجيع الخلافات العربية الإيرانية عموماً مقابل تشجيع التقارب العربي التركي، في ظلّ مناخاتٍ طائفية ومذهبية تخدم هذه التوجّهات «الأطلسية» في المنطقة.

وقد حرصت إدارة أوباما، منذ أشهرها الأولى في «البيت الأبيض»، على اتّباع هذا النهج الإيجابي مع الحكم السوري وعلى التمايز عن سياسة الإدارة السابقة، التي راهنت على أنّ احتلالها للعراق سيؤدي إلى انهيار أنظمة مجاورة أو دفعها للقبول ب»المطلوب» أميركياً، كما فعل آنذاك نظام العقيد القذافي في ليبيا. كذلك حاولت إدارة أوباما تنفيذ ما جاء من «توصيات» قي تقرير بيكر-هاملتون للعام 2006 والذي دعا إلى إضعاف إيران من خلال حلّ الصراع العربي-الإسرائيلي، وإلى التفاوض مع دمشق عوضاً عن المواجهة معها.

هذه السياسات والرغبات وصلت كلّها إلى طريقٍ مسدود، ليس فقط بفعل «الشروط والشروط المضادة» بل تتحمّل حكومة نتنياهو مسؤوليةً كبيرة في إعاقة الوصول إلى تسويات، مدخلها كان الملف الفلسطيني وصولاً إلى الجبهتين السورية واللبنانية. وقد نجحت إسرائيل في قلب أولويات إدارة أوباما في منطقة الشرق الأوسط حيث أصبح «الملف الإيراني» هو الأولوية وليس إيجاد دولة فلسطينية وتسوية الصراع على الجبهات الأخرى.

أمّا على الجانب الإسرائيلي، فإنّ «الرغبات» الإسرائيلية من تطوّرات الأزمة السورية هي مزيدٌ من التفاعلات السلبية أمنياً وسياسياً وعدم التوصل إلى أيِّ حلٍّ في القريب العاجل. فمن مصلحة إسرائيل الآن بقاء هذا الكابوس الجاثم فوق المشرق العربي والمهدّد لوحدة الأوطان والشعوب، والمنذر بحروب أهلية في عموم المنطقة، والمُهمّش للقضية الفلسطينية، والمؤثّر سلباً على حركات المقاومة في لبنان وفلسطين مهما كانت خياراتها ومواقفها.

فهي ستخسر حليفاً مهمّاً داعماً لها إن وقفت ضدّ الحكم في سوريا أو إذا تغّير هذا الحكم لصالح سياسة «أطلسية». طبعاً، لم تكن إسرائيل أبداً خلال الأحداث المهمة بالمنطقة مجرّد «راغبٍ» و»متمنٍّ»، بل هي قوة مؤثّرة وفاعلة بشكلٍ مباشر أو من خلال واجهات أو علاقات مع حكومات وجماعات دولية وإقليمية. لذلك نرى هذا التصعيد الإسرائيلي الحاصل الآن بشأن «الملف النووي» الإيراني.

حيث تسعى حكومة نتانياهو إلى جعله مبرّراً لتصعيدٍ عسكري إقليمي يسمح لها بالتحرّك عسكرياً في عموم المشرق العربي، وخاصة في سوريا ولبنان، بينما يكون العالم و»الحلف الأطلسي» مشغولين بالمواجهة مع إيران. ولا تنفصل هذه «الرغبات» العسكرية الإسرائيلية أيضاً عن «المشاريع» الإسرائيلية بإشعال حروب طائفية ومذهبية في عموم العالمين العربي والإسلامي، لتكون «الدولة اليهودية» هي القوة المهيمنة على كل الدويلات الدينية الممكن اخراجها إلى حيِّز الوجود، بفعل التفاعلات المرجوّة إسرائيلياً الآن من أحداث سوريا وممّا سبقها ويرافقها من أحداث في كلٍّ من لبنان والعراق والسودان ومصر واليمن والبحرين وباكستان وغيرها من دول العالم الإسلامي.

إنّ السياسة «الأطلسية» الآن ترى إضعاف إيران ممكناً من خلال المراهنة على نتائج «الربيع العربي» وما يفرزه هذا «الربيع» في بعض البلدان من وصول جماعات سياسية دينية متباينة مع إيران وبعيدة عن سياساتها، وأيضاً، من تفاعلات الحدث السوري لإضعاف حلفاء إيران في المنطقة. بينما سياسة الحكومة الإسرائيلية الراهنة تراهن على تصعيدٍ عسكري ليس من أجل إضعاف إيران فقط، بل لتغيير خرائط المنطقة ولتعزيز حاجة اميركا والغرب لاسرائيل فيها بحكم ما سينتج عن الحروب الإقليمية من تفاعلات لأمدٍ طويل تُسقط الحديث عن دولة فلسطينية بل ربّما تجعلها في مكان آخر!

إنّ كلّ تلك «الرغبات» الأطلسية والإسرائيلية، وما قبلها من «رغبات» للحكم ولقوى معارضة سورية، هي محكومةٌ بظروفٍ إقليمية ودولية تؤكّد الفهم السليم لمعنى «السياسة» بأنّها «فنّ الممكن» وليس «أحلام اليقظة» والرغبات والتمنّيات. فتركيا (العضو في الحلف الأطلسي) ترفض حتّى الآن أن تكون «كبش محرقة»، ولم تتجاوب مع «رغبات» التصعيد العسكري المباشر ضدَّ سوريا أو إيران. ومعظم الدول العربية يدرك حجم المخاطر المحيطة بالمنطقة ولا يريد التورّط في حروبٍ إقليمية أو في مشاريع فتن «أطلسية» أو إسرائيلية.

كذلك، وهذا مهمٌّ جداً، هناك إدراك روسي/صيني لأبعاد ما يحدث في سورية وتجاه إيران، وللانعكاسات الخطيرة على مصالح موسكو، وبكين ومستقبل العلاقات الدولية عموماً، في حال السماح بتكرار ما حدث في ليبيا من تدخّل عسكري أجنبي لتغيير النظام الحاكم.

إنّ إدارة أوباما، وخلفها حكومات «حلف الناتو»، لا تجد الآن أمامها إلاّ خيار البحث عن تسوية سياسية للملفّين الإيراني والسوري. فمصير العلاقة الأميركية/الأوروبية مع روسيا والصين يتوقّف الآن على كيفيّة التعامل مع هذين الملفين في الشرق الأوسط.

وستمرّ أيامٌ وأسابيع من المفاوضات الصعبة ومن محاولات تحسين «الموقف التفاوضي» لكلّ طرفٍ إقليمي ودولي على أرض الصراعات بالمنطقة، لكن في النتيجة سيكون «الممكن» التوصّل إليه هو أقلّ من مستوى ما «يرغب» به أي طرف. وإذا لم تحدث بعد ذلك «تسويات»، فإنّ العالم كلّه سيكون على شفير هاوية يدفع باتّجاهها الطرف الإسرائيلي الحاكم!.