رغم التعثّر الواضح في تطبيق وقف إطلاق النار على الأراضي السورية، وهو البند الأساس في خطة كوفي أنان، فإنّ هذه الخطة هي الآن الخيار الوحيد الممكن للتعامل مع واقع الأحداث الدموية التي تشهدها سوريا منذ أكثر من عام. بل يمكن اعتبار هذه الخطة محصّلة لفشل كل المراهنات الأخرى، التي جرت محاولة تطبيقها من قِبَل كل الأطراف المحلية والإقليمية والدولية المعنيّة بتطوّرات الأزمة السورية.
فلا مراهنة السلطات السورية على الحل الأمني قد نجحت، ولا مراهنة بعض قوى المعارضة على تغيير النظام قد تحقّقت، ولا الوعود والتهديدات بالتدخّل العسكري الأجنبي كان ممكناً تنفيذها.
أيضاً، فإنّ المراهنات على حصول تفكّك في قوى الحكم السوري مقابل بناء معارضة سورية موحّدة، قد سقطت في الحالتين، إذ ما زال الحكم في سوريا قوياً موحّداً، بينما شهدت قوى المعارضة مزيداً من التباعد بين أركانها، حتى في داخل «المجلس الوطني» نفسه، وهو المجلس الذي كان يُراد من تأسيسه إيجاد نقطة جذب لقوى سورية عديدة، فإذا به يتحوّل إلى مصدر تنافر بين مؤسسيه.
لكن خطة أنان لم تكن أصلاً بمبادرةٍ منه، كأمين عام سابق للأمم المتحدة، وهي ليست أيضاً مجرّد مبادرة من الأمين العام الحالي بان كي مون، فهي أولاً وأخيراً صيغة أميركية ــ روسية، جرى التوافق عليها وتسويقها لاحقاً لدى حلفاء كل طرف، حتى وصلت إلى الأراضي السورية والأطراف المحلية والإقليمية المعنيّة.
وهذا التوافق الروسي ــ الأميركي على إعداد وإعلان خطة أنان، رافقه أيضاً التفاهم على كيفيّة التعامل مع الملف النووي الإيراني، حيث تزامن إعلان الخطة بشأن سوريا والإجماع في «مجلس الأمن» على دعمها، مع نجاح جلسة المفاوضات في إسطنبول حول الملف النووي الإيراني، وكثيرة هي الآن التصريحات الإيجابية عن المتوقَّع أيضاً من الجولة القادمة للمفاوضات في بغداد.
لقد أصبح واضحاً أنّ إدارة أوباما لا تجد مصلحةً أميركية في زيادة الخلاف والتناقض بين المواقف الروسية والأميركية. وكذلك أيضاً هي رؤية الاتحاد الأوروبي، المتضرّر الأول من عودة أجواء «الحرب الباردة» بين موسكو وواشنطن، في ظلّ التراجع الاقتصادي الأوروبي، والحاجة الأوروبية لعلاقات اقتصادية وسياسية جيدة مع الصين وروسيا. كما لا تجد الإدارة الأميركية الآن، أيَّ مصلحة في تصعيد التوتّر مع إيران، أو في تبنّي مقولة الحكومة الإسرائيلية بشأن استخدام الضربات العسكرية على مواقع إيرانية، بل تنظر إدارة أوباما إلى هذا العمل العسكري المطلوب إسرائيلياً، كخطر أكبر على أميركا ومصالحها من أيّة حرب أخرى خاضتها في المنطقة.
لذلك حصلت هذه التفاهمات الأميركية ــ الروسية حول كيفيّة التعامل مع الملفين السوري والإيراني، دون أن يعني ذلك «يالطا» جديدة، أو تفاهمات على توزيع الحصص الجغرافية في العالم، كما حصل بين موسكو وواشنطن عقب الحرب العالمية الثانية.
فهي الآن تفاهمات على منع استمرار الانحدار السلبي للملفين السوري والإيراني، أو وصول أيٍّ منهما لحالة الحرب الإقليمية، لكن لم يحصل بعد التفاهم الأميركي ــ الروسي على المطلوب مستقبلاً من وجهة نظر كلّ طرف، فهي مسألة مفتوحة الآن لمزيد من التفاوض، وعلى مرحلتين: الأولى، ومداها الزمني هو قمّة مجموعة الثمانية المقرّرة هذا الشهر (مايو) في «كامب ديفيد» الأميركية، والمرحلة الثانية ستكون مباشرة بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية في نوفمبر القادم، لبحث الاتفاقات الممكنة بين المحورين: الأميركي ــ الأوروبي، والروسي ــ الصيني، على قضايا دولية عديدة، أهمّها خط الأزمات الممتد من طهران إلى غزة.
وفي حال إعادة انتخاب أوباما واستمرار نهج التفاهم بين موسكو وواشنطن، فإنّ الصراع العربي ــ الإسرائيلي سيكون المحطّة القادمة لقطار التفاهمات الدولية، من خلال الدعوة لمؤتمر دولي (ربّما في موسكو) على غرار مؤتمر مدريد في مطلع تسعينيات القرن الماضي، ومن أجل إعلان «الدولة الفلسطينية»، وتوقيع معاهدات على الجبهتين السورية واللبنانية. فخيار التسويات هو المطلوب حالياً من قبل الأقطاب الدولية، حتى لو كانت هناك «معارضات» لهذه التسويات على مستويات محلية وإقليمية.
هل هذه التوقّعات عن التسويات الدولية الممكنة لأزمات في المنطقة ومحيطها، تعني «برداً وسلاماً» للأوطان العربية وشعوبها؟ الإجابة هي بنعم، في الحدّ الأدنى، وفي ظلّ الظروف العربية السلبية القائمة حالياً، وما فيها من مخاطر أمنية وسياسية على الكيانات الوطنية، لكن هي حتماً مراهنات عربية جديدة على «الخارج»، لحلّ مشاكل مصدرها الأساس هو ضعف «الداخل» وتشرذمه. فأيُّ حلٍّ يرجوه العرب لمصلحتهم إذا سارت التفاهمات الدولية والإقليمية تبعاً لمصالح هذه الأطراف غير العربية، ولموازين القوى على الأرض، وليس مرجعية الحقوق المشروعة للشعوب والأوطان؟!
إنّ العرب لم يتعلّموا سابقاً من «قابلية ظروفهم للاستعمار». فالمنطقة العربية (وأنظمتها تحديداً) لم تستفد من دروس مخاطر فصل حرّية الوطن عن حرّية المواطن، ولم تستفد أيضاً من التجارب المرّة في المراهنة على الخارج لحلِّ مشاكل عربية داخلية. والأهمُّ في كلّ دروس تجارب العرب الماضية، والتي ما زال تجاهلها قائماً، هو درس مخاطر الحروب الأهلية والانقسامات الشعبية على أسس طائفية أو إثنية، حيث تكون هذه الانقسامات دعوة مفتوحة للتدخّل الأجنبي، ولعودة الهيمنة الخارجية من جديد.
إنّ المنطقة العربية تتميّز عن باقي دول العالم الثالث، بأنّ الدول الكبرى، الإقليمية والدولية، تتعامل مع هذه المنطقة كوحدة متكاملة مستهدَفة، وفي إطار خطّة استراتيجية واحدة لكلّ أجزاء المنطقة، بينما تعيش شعوب المنطقة في أكثر من عشرين دولة، وفق الترتيبات الدولية التي وضعتها في مطلع القرن العشرين القوى الأوروبية الكبرى.
ولقد أدّى هذا الواقع الانقسامي، وما زال، إلى بعثرة الطاقات العربية (المادّية والبشرية)، وإلى صعوبة تأمين مشروع عربي فاعل يواجه المشاريع والتحدّيات الخارجية، أو يمكّن من القيام بدور إقليمي مؤثّر تجاه الأزمات المحلية، بل أدّى أيضاً لوجود عجز أمني ذاتي في مواجهة ما يطرأ من أزمات وصراعات داخل المنطقة، ما يدفع البعض للاستعانة بقوى أمنية خارجية قادرة على ضبط هذه الصراعات.
إنّ سلبيّات الواقع العربي الراهن، لا تنحصر فقط في المخاطر الناجمة عن عدم إدراك العرب دروس تاريخهم، وأهمية موقع أوطانهم وثرواتها، بل أيضاً في سوء رؤية أصحاب الأرض العربية لأنفسهم ولهويّتهم، ولكيفية أسلوب إصلاح أوضاعهم السياسية والاجتماعية. فتداعيات العنف الداخلي المسلّح، المرافق الآن لانتفاضات شعبية في بعض البلدان العربية، تُنذر بالتحوّل إلى حروب أهلية عربية، يكون ختامها نجاح المشروع الإسرائيلي حصراً، حتّى على حساب المشاريع الدولية والإقليمية الأخرى الراهنة للمنطقة.
ومن المهمّ عربياً في هذه المرحلة، عدم الفصل بين الحاجة لتغييرات وإصلاحات داخلية في بعض الأوطان، وبين مسؤوليات ما تفرضه التحدّيات الخارجية على المنطقة ككل، ثم ما تحتّمه أيضاً دواعي الأمن الوطني، كما الحال الآن بالنسبة للثورة المصرية المنشغلة في ترتيب «البيت الداخلي» المصري، بينما تشتعل نيران في «البيوت العربية» المجاورة لها. فمصر معنيّة الآن بدور أكثر فعالية في مواجهة ما يحدث في السودان وليبيا من مخاطر واحتمالات، بعدما جرى تدويل الأزمات في كلٍّ منهما، وما نتج عن هذا التدويل من تقسيم للسودان ومن تهديد لوحدة وأمن ليبيا.
مصر أيضاً معنيّة بجبهتها الشرقية المتوترة مع إسرائيل، وبما يحدث في سوريا والمشرق العربي عموماً، وبإنجاح المصالحة الفلسطينية على أسسس وطنية فلسطينية مشتركة. ومصر معنيّة كذلك بحفظ عروبة منطقة الخليج العربي، وبرسم حدود العلاقات العربية مع إيران وتركيا. وهي كلّها مسؤوليات تصبّ في مصلحة الأمن الوطني المصري المباشر، وتتطلّب دوراً مصرياً أكثر فعالية في جامعة الدول العربية، وفي قضايا المنطقة عموماً.