ينشغل العرب اليوم في همومٍ كثيرة؛ بعضها ذو عناوين سياسية محلّية ترتبط في طبيعة الحكومات الحاكمة، والبعض الآخر منها يدخل في دائرة الهموم الاقتصادية والاجتماعية، لكن بشكلٍ عام هي الآن همومٌ وطنية محلية في صراعاتها وساحاتها، وإن اشترك واقع العرب كلّهم في وحدة عناوين هذه القضايا السياسية والاقتصادية.
هي مرحلةٌ مختلفة تماماً عمّا كان عليه واقع العرب قبل منتصف قرن حينما توحّدت القضايا والساحات والصراعات، وحيث لم يعرف ذاك الزمن التمييز على أساس الانتماءات الوطنية أو الطائفية أو الإثنية. فالبلاد العربية كانت آنذاك إمّا تحرّرت حديثاً من حقبة استعمارية أوروبية أو تخوض ثورات التحرّر من أجل استقلال الأوطان عن مستعمرٍ أجنبي.
لكن في الحالتين، كان هناك إدراكٌ عربيٌّ عام للرابط المهم بين الهمّ الوطني وبين القضية الفلسطينية، بين مواجهة المستعمر الأوروبي للأوطان وبين مواجهة المحتلّ الصهيوني لأرض فلسطين الذي اغتصب هذه الأرض العربية الفلسطينية بفعل دعم المستعمر الأوروبي ذاته. فالقضية الوطنية كانت هي قضية قومية مشتركة، والعكس صحيح. كان الجزائري يخوض ثورة التحرّر ضدّ المستعمر الفرنسي مدعوماً من كلّ العرب، ومن مصر عبد الناصر تحديداً، تماماً كما كانت عدن تخوض ثورتها ضدّ المستعمر البريطاني.
وكانت القضية الفلسطينية هي القضية المركزية لكل العرب إلى حين منتصف السبعينات من القرن الماضي حيث بدأت حروبٌ أهلية عربية على أكثر من جبهة، متزامنةً مع عزل مصر عن أمّتها العربية بسبب «معاهدات كامب ديفيد» والصلح المنفرد مع إسرائيل.
ثم خرجت بعد ذلك في المنطقة العربية شعارات: «الوطن أولاً» لتبرير الانعزال الإقليمي، أو للهروب من مسؤوليات الصراع العربي ــ الإسرائيلي الذي ازداد شراسةً ووحشية ضدّ الفلسطينيين واللبنانيين بعد حرّية الحركة التي كسبتها إسرائيل في جبهة المشرق العربي عقب المعاهدة مع مصر السادات. واستمرّ تهميش القضية الفلسطينية عربياً بأشكال ومضامين مختلفة طيلة العقود الثلاثة الماضية.
وساهم في هذا التهميش الخطير، الذي كانت لبنته الأولى في تهميش دور مصر العربي، ما حصل من حروبٍ في منطقة الخليج العربي بدأت في الحرب العراقية الإيرانية ولم تنتهِ في غزو النظام العراقي السابق لدولة الكويت ولا طبعاً بحرب تحرير الكويت لاحقاً.
ثمّ كان العامل الأخطر ربّما، في هذا التهميش للقضية الفلسطينية، ما حصل في «اتفاق أوسلو» من اعتراف «منظمة التحرير الفلسطينية» بإسرائيل والتخلّي عن حقّ المقاومة المسلحة ضدّ المحتل الإسرائيلي مقابل اعتراف إسرائيلي ودولي بـــ «منظمة التحرير» وقيادتها فقط، وليس بحقوق الشعب الفلسطيني في أرضه ووطنه ودولته المستقلة.
العرب منشغلون اليوم في «جنس شياطين» حكّامهم بينما أبواب أوطانهم تُخلَع واحداً بعد آخر، بل إنّ أساسات بعض هذه الأوطان تتهدّم وتتفكّك ليُبنى عليها «مستوطنات» عربية جديدة بأسماء دينية أو إثنية، كما حدث في جنوب السودان وشمال العراق، وكما يحدث بينهما وحولهما!.
فلم تعد القضية الفلسطينية تعني الكثير لغير الفلسطينيين من العرب، بل للأسف أصبحت أيضاً قضية «التحرّر الوطني» عموماً مسألة فيها «وجهة نظر»!! إذ لا يجد البعض الآن مشكلةً في طلب التدخّل العسكري الأجنبي لمساعدة «ثوار عرب» في قضايا وطنية داخلية!!.
فهي الآن حالة معاكسة تماماً لما كان عليه العرب قبل نصف قرن: تهميش للقضية الفلسطينية وطلب تدخّل عسكري أجنبي ومعايير طائفية ومذهبية وإثنية، مقابل ما كان من مركزية للقضية الفلسطينية وأولويّة لمعارك التحرّر الوطني من المستعمر الأجنبي ومعايير وطنية وقومية لا طائفية ولا إثنية.
هل يشكّ أحدٌ إذن في هذا الترابط والتلازم بين «ثلاثيات» مقابل «ثلاثيات»: أنّ مواجهة المستعمر الأجنبي تعني حتماً مواجهةً مع المحتلّ الإسرائيلي وتعني حتماً وحدةً وطنية شعبية وقومية.. وبأنّ المراهنة على التدخّل العسكري الأجنبي لتغيير أوضاع داخلية تعني حتماً تفاهماتٍ وعلاقات مع إسرائيل وتعني حتماً الوقوع في المستنقع الطائفي والمذهبي والإثني!!
وكم هو جهلٌ مطبِق حينما يحصل هذا التهميش للقضية الفلسطينية حتّى في تفاصيل الأوضاع الداخلية السياسية والاقتصادية. ولعلّ بعض الشواهد التاريخية مهمّة في هذا الحديث: عدوان ثلاثي إسرائيلي ـ فرنسي ـ بريطاني على مصر في العام 1956 لأنّ جمال عبد الناصر قام بتأميم شركة قناة السويس لأسباب داخلية مصرية. أمّا في لبنان، فقد بدأت فيه حربٌ أهلية دامية وطويلة في العام 1975 ارتبطت بمسألة الوجود الفلسطيني على أرضه، الوجود المسلح وغير المسلح.
ففي لبنان يعيش مئات الألوف من اللاجئين الفلسطينيين المسؤولة إسرائيل والغرب عن تهجيرهم من وطنهم وأرضهم لأكثر من ستة عقود، ولا حلَّ قريب لمشكلتهم، وبالتالي يُشكّل هذا الوجود الفلسطيني عنصرَ تأزّمٍ دائم في الحياة السياسية اللبنانية، القائمة أصلاً على أوضاع خاطئة مهدّدة دائماً بالانفجار. فهل يمكن أن يشهد لبنان استقراراً دون حلولٍ عادلة لحقوق الشعب الفلسطيني؟!
أليست أوضاع سوريا والأردن ومصر مشابهةً أيضاً للحالة اللبنانية، وهل يمكن عزل ما يحدث في هذه الدول عن مجريات الصراع العربي مع إسرائيل والمشاريع الاستعمارية الداعمة لها؟! ألم يكن تفكيك السودان حالياً ومحاولات تقسيم العراق ولبنان وغيرهما سابقاً مصلحةً وهدفاً إسرائيلياً يتمّ العمل لأجلهما منذ حصول نكبة فلسطين قبل ستة عقود؟!
أليس كذلك هو حال كثيرٍ من الدول العربية التي يرتبط الاستقرار السياسي والاقتصادي فيها بمصائر الحروب والتسويات مع إسرائيل؟! أليس أيضاً تحجيم التدخّل الإقليمي الإيراني والتركي في الشؤون العربية أمراً يرتبط في مستقبل القضية الفلسطينية وما لهاتين الدولتين من علاقات وتأثير في الصراع العربي مع إسرائيل؟! في منطقةٍ عربية يزداد فيها استخدام شعار: «الوطن أولاً»، يترسّخ واقع خدمة مصالح «إسرائيل أولاً».
فشعار «الوطن أولاً» الذي رفعته بعض الأطراف العربية لم يكن من أجل تحريض المواطنين على الولاء الوطني أولاً والتخلّي عن الانقسامات الداخلية القائم معظمها على انتماءاتٍ طائفية أو مذهبية أو أصولٍ إثنية، بل كان الشعار وما يزال يتمّ طرحه واستخدامه لتبرير الابتعاد عن الصراع العربي ــ الإسرائيلي والتخلّص من الواجب الديني والقومي في المساهمة بتحرير الأراضي المقدّسة في فلسطين. أيضاً، جرى استخدام هذا الشعار (الوطن أولاً) في مواجهة دول عربية أخرى وليس طبعاً في مواجهة إسرائيل وأطماعها في الأرض والثروات العربية.
وستبقى «إسرائيل أولاً» هي المستفيدة من الواقع الفلسطيني تحديداً والعربي عموماً بما هو عليه من حال التشرذم وانعدام وحدة الموقف، ومن الفوضى في العلاقات والمؤسسات العربية، ومن أولويّة مصالح الحكومات على الأوطان، ومن «جهالة» من هم معارضة من أجل الديمقراطية فقط!