حدَثٌ إيجابيٌّ كبير أن تنتهي العملية الانتخابية في مصر بهدوء وبشكل سلمي، وبلا اضطرابات أمنية تُعطّل هذا الحدث المهم. وهذا أمر يُسجَّل لمصر وشعبها وحكومتها وقضائها ومؤسستها العسكرية.
هو حدث إيجابيٌّ أيضاً أن يتمّ التسليم بنتائج الانتخابات بلا تلاعب أو تزوير لنتائج فرز الأصوات، حيث سرت شائعات كثيرة عن إمكانيّة ذلك، بعد أن أعلن كلٌّ من المرشّحين (مرسي وشفيق) فوزه بالجولة الثانية، حتّى اللحظات الأخيرة قبل إعلان النتائج الرسمية.
وحدث إيجابي أن تؤكّد كلمة الرئيس المنتخب محمد مرسي، بعد إعلان فوزه، وحدة الشعب المصري، وضروة بناء نهضة مصرية تؤكّد دورها القيادي، كما أنّه لَأمر مهم أن تتوافق قوى «ثورة يناير» مع الرئيس المنتخب، على قضايا ذات علاقة بمرحلة التحوّل الديمقراطي في مصر.
لكن كل هذه الإيجابيات التفصيلية تدخل الآن في مرحلة التساؤلات الكبرى عن مستقبل مصر، وعن دورها العربي والإقليمي المنشود. ففي واقع الحال المصري الآني، هناك رئاسة فازت بالانتخابات في الجولة الأولى بنسبة حوالي 25 % من أصوات المقترعين، الذين كانوا أصلاً حوالي نصف عدد من يحقّ لهم الاقتراع. أي عملياً، استطاع الرئيس الجديد خوض الجولة الثانية بسبب تأييد وتصويت حوالي 12 % من المصريين لمصلحته.
ثم جاءت الجولة الثانية لتجعله رئيساً بأصوات حوالي نصف عدد المقترعين، الذين أيضاً كانوا ما يُقارب نصف عدد من يحقّ لهم الاقتراع. فربع عدد المصريين هم الذين اختاروا فعلياً الدكتور محمد مرسي رئيساً الآن لكل مصر، وهنا التحدّي الأكبر أمام الرئيس الجديد بأن يكون فعلاً رئيساً لكل مصر لا لربع سكانها.
لكن المشكلة التي ستبرز أمام هذا التحدّي الكبير، هي كيفيّة تعامل الرئيس الجديد مع «حركة الإخوان» التي جاء منها، وكمرشّح لها، ولم يكن هو في موقع المسؤول الأول فيها. فهل سيضطّر للعودة إلى «مرشد الحركة» في القضايا المفصلية خلال فترة حكمه؟ وهل يستسيغ ذلك الأرباع الثلاثة من مجموع المواطنين المصريين؟
وهل هذا أصلاً سلوكٌ دستوري؟ وماذا في حال حدوث تناقض في المواقف والرؤى بين «حركة الإخوان»، وبين مؤسسات دستورية أو مع أغلبية كبيرة من المصريين على قضايا عامّة، كما حدث في تجربة الأشهر الماضية من إخلال الحركة بوعود وتعهّدات أعلنتها ولم تلتزم بها؟!
إنّ الواقعية تفرض الآن عدم تكبير الآمال والأحلام خلال هذه المرحلة، فالأرضية السياسية والدستورية للبناء النهضوي المنشود مصرياً، ما زالت رخوةً جداً، وربما غير متوفّرة بعد. ومرجعية القرار السياسي والأمني غير محسومة بعد، وستأخذ فترة من الوقت قبل وضوحها.
والتدخّل الخارجي في الشؤون المصرية ما زال قائماً بأشكال مختلفة. ومن غير المعروف بعدُ ما هو مصير صلاحيات الرئاسة، أو مصير المؤسسة التشريعية (مجلس الشعب)، ولا مصير التعديلات الدستورية ولا طبيعة هيئة إعداد الدستور.. وهي كلّها عناصر مهمّة جداً لتحديد طبيعة المستقبل السياسي لمصر، ولكيفيّة أداء الرئيس الجديد ومدى إمكانات نجاحه أو فشله في تنفيذ برنامجه وتعهّداته.
أمّا عن التدخل الخارجي، فالسؤال المهمّ، والذي لا إجابة واضحة بعدُ عنه، هو كيفيّة تفسير الموقف الأميركي، الذي تربطه، من جهة، علاقة جيّدة مع «المجلس العسكري»، وكانت له الكلمة الفصل مع النظام السابق.
وكان داعماً، من جهة أخرى، بشدّة لإعلان فوز المرشح الدكتور محمد مرسي، وأوّل المهنّئين له بالرئاسة! فهل يدخل ذلك ضمن مشروع «تدجين» التيّارات السياسية الإسلامية في البلاد العربية ومقايضة وصولها للحكم بتنازلات سياسية خارجية، لها علاقة مثلاً بالموقف من إسرائيل ومن العلاقة مع «حلف الناتو»؟
ألم يدعُ الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن، في اجتماع «الناتو» عام 2004 في إسطنبول، إلى أن يأخذ العالم الإسلامي بالنموذج التركي في الحكم الذي يقوده تيّار سياسي إسلامي، لكن على قاعدة نظام ديمقراطي منضوٍ إلى حلف «الناتو» ويقيم علاقات طبيعية مع كلّ جواره الإقليمي، بما في ذلك إسرائيل؟!
طبعاً، في الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة المصرية، كانت خيارات المصريين ومشاعر العرب واضحةً، وموزّعة بين تيّارات سياسية مختلفة تنافس ممثلون عنها، بينهم حمدين صباحي، الذي كان يُعبّر بشكل واضح عن آمال قوى الثورة المصرية وطلائعها الشبابية.
لكن نتائج الجولة الأولى أدّت إلى حصر التنافس بين محمد مرسي وأحمد شفيق، ما جعل هذه القوى والطلائع مضطّرة إلى الخيار الصعب، كالذي وقعت فيه ثورات تحرّرية عديدة خلال حقبة الخمسينيات من القرن الماضي، ومن ضمنها «ثورة يوليو».
حيث كان العالم مفروزاً بين «يمين رأسمالي» و«يسار شيوعي»، وكلاهما لم يكونا معبّريْن عن آمال وطموحات هذه الثورات التحرّرية، فكانت خيارات مواقفها صعبة ومكلفة جداً، رغم وضوح هُويتها الوطنية والقومية المستقلة، والتي جرى التعبير عنها في ابتداع منظمة «سياسة عدم الانحياز والحياد الإيجابي».
حتماً ستنشغل مصر كثيراً خلال المرحلة القادمة بأمورها الداخلية، في منطقة لا تنتظر فقط «عودة مصر»، بل يُحاول البعض استباق عودتها، والإسراع في ترتيب أوضاع كيانات وأوطان وأنظمة تُحيط بمصر جنوباً وغرباً وشرقاً.
إنّ أوضاع دستورية وقانونية، إضافة لتفرّق قوى الثورة، هي التي أوصلت المصريين إلى الخيار الصعب بين مرشّح «حركة الإخوان» ومرشّح «النظام السابق». ومن غير المعلوم بعد كيف ستكون الأوضاع السياسية في مصر خلال المرحلة القادمة، ومن سيصنع القرارات السياسية والأمنية الحاسمة في بلد تتنافس فيه مرجعيات دستورية وعسكرية و«ميادينية»، وتُراهن إسرائيل على بقائه ضعيفاً متصارعاً مع نفسه، ومشلول الحركة خارج حدوده.
وليت الرئيس مرسي قد أشار أيضاً في خطابه الرئاسي الأول، حينما تحدث عمّن لهم الفضل بوصوله لمنصب الرئاسة، إلى «ثورة يوليو» التي حققت «العدالة» الاجتماعية للشعب المصري. فلولا «ثورة يوليو» ما كان ممكناً للدكتور مرسي (وغيره من ملايين الشعب المصري) أن ينهي تعليمه الثانوي ولا الجامعي، وهو ابن عائلة مصرية محدودة الدخل. فكسْر احتكار التعليم العالي للعائلات الميسورة من خلال تعميم التعليم المجاني، كان أحد أبرز الإنجازات الاجتماعية لثورة يوليو.