مع انتهاء أعمال مؤتمر "الحزب الديمقراطي" هذا الأسبوع في ولاية نورث كارولينا، وبعد أيامٍ قليلة من مؤتمر "الحزب الجمهوري" في ولاية فلوريدا، تدخل الانتخابات الأميركية أسابيعها الأخيرة الحاسمة قبل استحقاق يوم 6 نوفمبر، الذي سيقرّر فيه الناخبون الأميركيون مصير من سيحكم "البيت الأبيض" ومن سيملك غالبية الأصوات في مجلسي النواب والشيوخ، إضافةً إلى مناصب هامّة عديدة في الولايات، وقضايا متنوعة تخضع للاستفتاء الشعبي في موسم الانتخابات الذي يتكرّر كلّ عامين، ما عدا انتخابات الرئاسة التي تحصل كل 4 سنوات.

لكن هل يتغيّر جوهر السياسة الخارجية الأميركية بتغيّر الإدارات الحاكمة؟ وهل يؤثّر كثيراً تنقّل "البيت الأبيض"، بين رئيسٍ "جمهوري" وآخر "ديمقراطي"، على هذه السياسة؟ أمْ أنّ هناك "مصالح أميركية عليا" يتواصل العمل لتحقيقها والدفاع عنها، من قبل مؤسسات وأجهزة لا تخضع للتغييرات السياسية الطارئة في "البيت الأبيض"؟

الوقائع والتجارب كلّها تؤكّد وجود أهداف ومصالح ومؤسسات أميركية، محصّنة ضدّ تأثيرات ما يحدث في الحياة السياسية الأميركية من تحوّلات وصراعات انتخابية محلّية، وأنّ الاختلاف بين الإدارات يظهر في الأساليب والمناهج أكثر ممّا هو في الغايات والأهداف.

فلقد سعت إدارة بوش السابقة في ولايتها الثانية لتوظيف سياسي وأمني واقتصادي، لما قامت به الإدارة الجمهورية "المحافظة" في عهدها الأوّل في المجال العسكري، وما زال هذا التوظيف السياسي الأميركي مستمرّاً إلى حدٍّ ما على أراضي الشرق الأوسط، رغم تغيّر الإدارة في واشنطن.

 ولأنّ التواجد العسكري الأميركي لم يكن وحده كافياً من أجل تحقيق الرؤية الأميركية المطلوبة لمنطقة "الشرق الأوسط"، فقد عملت "المؤسسات الأميركية" على دعم وجود عناصر سياسية تلازم الوجودين العسكري والأمني للولايات المتحدة في المنطقة.

أبرز هذه العناصر هو السعي لتعديل التركيبة السياسية القائمة في بعض دول العالم الإسلامي، لتصبح مبنيّةً على مزيجٍ من آلياتٍ ديمقراطية وفيدراليات إثنية وطائفية. فالديمقراطية لو تحقّقت، دون التركيبة الفيدرالية (التي تكون حصيلة تعزيز المشاعر الانقسامية في المجتمع الواحد)، يمكن أن توجِد أنظمةً وحكوماتٍ تختلف مع الإرادة أو الرؤية الأميركية.

إنَّ السياسة الأميركية، التي طرحت مقولة "النموذج الديمقراطي العراقي" للمنطقة، والتي أعلنتها إدارة بوش عقب غزو العراق مباشرة في العام 2003، قد أرفقتها لاحقاً بشعار "الفوضى البنّاءة"، ثمّ بأطروحة "الشرق الأوسط الجديد" عقب الحرب الإسرائيلية على لبنان عام 2006. وهي كلّها سياسات أميركية أثبتت التطوّرات الراهنة استمرار العمل من أجلها.

كخلاصة، فإنّ حروب واشنطن في "الشرق الأوسط"، مع بدء القرن الحالي، شجّعت من خلال "النموذج العراقي" على صراعات سياسية محلية قائمة على انقسامات إثنية أو طائفية، ولكن ليس إلى حدّ الصراعات الأهلية المفتوحة. وهذا ما حصل في ضبط صراعات العراق ولبنان والسودان، وما يحصل الآن من محصّلة الموقف الأميركي من تداعيات ما يحدث في سوريا.

وقد أفرزت هذه الأزمات على الأراضي العربية جملة مخاوف سياسية وأمنية عديدة، أبرزها كان ولا يزال من مخاطر الصراعات الطائفية والمذهبية والإثنية، خاصّةً في ظلّ الحراك الشعبي العربي الحاصل، وما يرافق هذا الحراك من عنفٍ مسلح وصراعاتٍ إقليمية ودولية.

ومع اقتراب موعد انتخابات الرئاسة الأميركية، نجد أنّ سياسة أميركا، في المنطقة العربية تحديداً والشرق الأوسط عموماً، أمام منعطف طرق بين نهجٍ أميركي يريد الحفاظ على الريادة العالمية من خلال "القوّة الناعمة" التي تستخدمها إدارة أوباما، وبين نهج "القوّة الصلّبة" الذي مارسته الإدارة السابقة، والذي يدعو الآن المرشّح "الجمهوري" ميت رومني لإعادته.

صحيحٌ، إذن، أنّ إدارة أوباما قد لا تختلف من حيث الغايات الكبرى والمصالح الأميركية المطلوب تحقيقها، عن الإدارات الأميركية السابقة، لكنّها اختلفت حتماً عن إدارة بوش من حيث المنطلقات والأساليب. وهذا ما نلمسه الآن من تباين في مسألة السياسة الخارجية، بين ما قامت به إدارة أوباما وما يدعو له المرشح المنافس رومني.

فالمرشح الجمهوري ينتقد أوباما لأنه لم يقف مع نتانياهو في كل سياساته، بما فيها توجيه ضربات عسكرية لإيران، ولأنّ أوباما تحدّث عن حدود العام 1967 كأساس للتسوية بين إسرائيل والعرب.

كذلك كانت انتقادات رومني لأوباما في العلاقات مع روسيا، حيث يراها رومني من منظار فترة الحرب الباردة قبل نصف قرن! ويكرّر العديد من الصقور "الجمهوريين" دعواتهم لتدخّل عسكري أميركي في الأزمة السورية، وهي دعوةٌ تُعيد للأذهان ما حصل من تورّطٍ عسكري أميركي كبير في العراق خلال الإدارة الجمهورية السابقة.

ورغم الحجم الضخم من المساعدات العسكرية والمالية التي قدّمتها إدارة أوباما لإسرائيل، فإنّ "اللوبي الإسرائيلي" يتحرّك بقوّة خلف المرشح الجمهوري رومني، الذي اختار أصلاً معظم مستشاريه من المعروفين بدعمهم الشديد لإسرائيل ولنهج نتانياهو تحديداً.

لقد أظهرت إدارة أوباما تعديلاً في الخطاب الأميركي، وفي أساليب التعامل مع الأزمات الدولية ومع الكثير من الحكومات في العالم، إلا أنّ هذا التعديل كان في حدود "الشكل"، ولم يذهب بعيداً إلى جوهر ومضمون القضايا الدولية المعنيّة الولايات المتحدة بها.

وهذا ليس مستغرَباً، لأنّه كان لا مبرر أصلاً لتوقّع انقلاب في المواقف والسياسات تحت رئاسة أوباما. فانتصار أوباما في الانتخابات الرئاسية عام 2008، كان تعبيراً عن رغبة أميركية في الخلاص من نهج الإدارة السابقة، أكثر منه دعماً لتغييرٍ جذري في المجتمع الأميركي أو في السياسة الخارجية.

إنّ الواقع العربي الرّاهن يعاني من حال التمزّق على المستويات كلّها، بما فيها حال الأوضاع في فلسطين، والانقسام حول القضايا التي لا يجوز أصلاً الفصل بينها. فالمشكلة ليست فقط في واقع حال السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، بل المشكلة أصلاً هي استمرار المراهنات على تغييرٍ في الخارج، بينما تبقى الصراعات سمةً لازمة للمنطقة العربية، بين حكوماتها وداخل شعوبها!