يتّفق العالم كلّه، بما فيه البلاد العربية، على أهمّية ترقّب نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية، لما لهذه الانتخابات من آثار على أزماتٍ دولية عديدة. لكن معايير التأييد الخارجي لأيٍّ من المرشّحين تختلف تبعاً لاختلاف الدول وأزماتها العالقة مع واشنطن.
فحتماً، سترحّب روسيا مثلاً بإعادة انتخاب أوباما أكثر من مجيء رومني كرئيسٍ جديد للولايات المتحدة. وربّما ينطبق هذا المثال أيضاً على دولٍ أخرى، كالصين وإيران والعديد من دول الاتحاد الأوروبي، بينما أصبح واضحاً أنّ حكومة نتانياهو تسعى جاهدةً لدعم فوز المرشّح رومني.
أيضاً، ستجد جماعات التطرّف والعنف في العالم الإسلامي أنّ من مصلحتها فوز المرشح رومني لتكرار ما حدث في مرحلة إدارة بوش، من توظيفٍ لسياسة العداء والحروب التي طغت على سياسات تلك الإدارة الجمهورية المحافظة، والتي كانت تساعد على تبرير استخدام العنف من قبل هذه الجماعات وعلى استقطاب المزيد من المؤيّدين لها. طبعاً، لا يصحّ القول الآن أنْ لا فرق بين إدارةٍ أميركية وأخرى، أو بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، كما كان خطأً كبيراً أيضاً التوهّم عام 2008 أنّ إدارة أوباما ستكون حركةً انقلابية على المصالح والسياسات العامّة الأميركية.
إنّ انتصار باراك أوباما في انتخابات العام 2008 لم يكن ثورةً ولا انقلاباً في المعنى السياسي على ما هو قائم في الولايات المتحدة من مؤسسات تصنع القرار عموماً، بل يمكن اعتبار أنّه كان بمثابة "حركة تصحيحيّة" من داخل النظام الأميركي نفسه، بعد أن أوصلت إدارة بوش هذا "النظام السياسي الأميركي" إلى منحدرٍ ما كان يجب أن تهوي إليه. فهكذا كان تقييم عدّة أسماء بارزة من "الحزب الجمهوري"، واضطرارها آنذاك لتأييد انتخاب أوباما بسبب سياسات إدارة بوش وتبنّي ماكين/بالين لمضمون هذه السياسة في حملتهما الانتخابية.
إنّ الانقلاب حدث فعلاً عام 2008 في مفاهيم اجتماعية وثقافية أميركية، فقد فشل القس جيسي جاكسون في السابق بالحصول على دعم الحزب الديمقراطي له بالترشّح لانتخابات الرئاسة لأنّه أميركي أسود، رغم موقعه الديني المسيحي وجذور عائلته العميقة في أميركا.
أيضاً، فشل المرشّح الديمقراطي للرئاسة عام 1988 مايكل دوكاكس أمام منافسه جورج بوش الأب، بسبب عدم ثقة قطاعٍ كبير من الأميركيين ب"وطنيته" الأميركية لأنّه ابن مهاجر يوناني حديث، وأنّ عائلته لم تتأصّل في التاريخ الأميركي، ولم تنحدر من "الأنجلوسكسون" الأبيض المسيحي البروتستانتي! وكان جون كنيدي أوّل رئيس كاثوليكي للولايات المتحدة الأميركية، ولم يأتِ بعده كاثوليكيُّ آخر للرئاسة الأميركية.
إذن، ما حدث في العام 2008 كان انقلاباً على "مفاهيم أميركية" غير منسجمة أصلاً مع طبيعة الدستور الأميركي، ولم تعد لها قيمة لدى الجيل الأميركي الجديد، في ظلّ مجتمعٍ تتزايد فيه أعداد المهاجرين غير الأوروبيين، والذين سيشكّلون خلال عقود قليلة قادمة غالبية عدد السكان. وهؤلاء المهاجرون الجدد والأقليّات غير الأوروبية والجيل الأميركي الجديد كانوا أساس الحملة الانتخابية لباراك أوباما والقوة الشعبية الفاعلة في انتصاره الكبير.
لكن لا ينبغي النظر إلى التحوّل الاجتماعي والثقافي الأميركي الذي حصل في ظاهرة أوباما على أنّه تحوّل سياسي أيضاً في طبيعة الحياة السياسية الأميركية، أو نظامها الحزبي الانتخابي والقوى الاقتصادية والسياسية التي تقف خلفه (وأمامه أحياناً)، ولا أيضاً في خدمة المصالح الأميركية في العالم وحرص كل الرؤساء الأميركيين على بقاء التفوّق الأميركي عسكرياً واقتصادياً واستمرار أميركا القوّة الأعظم.
فالرئيس أوباما كان حالة تصحيح لمسارٍ أميركي شرد كثيراً في سنوات بوش الثماني، حيث أضرّ هذا "المسار البوشي" بالمصالح الأميركية عموماً، وطغت عليه الصبغة الأيديولوجية في مجتمعٍ لا يستسيغ "الحكومات العقائدية". ففوز أوباما في العام 2008 كان إعادةً لنهج "الاعتدال الأميركي"، بعد سنواتٍ من سياسة التطرّف وبعد فشل مشروع "الانفرادية" الأميركية في تقرير مصير العالم.
لكن هذا "الاعتدال" كان حالةً نسبية في المجتمع الأميركي، ولم يكن عامّاً وشاملاً لكل الأميركيين. فالتطرّف الأميركي ازداد فاعليةً وبروزاً خلال السنوات الأربع الماضية، وستكون له تأثيراتٌ كبيرة في عمليات التصويت يوم الانتخابات.
إنّ الوجه الجميل لأميركا ظهر في العام 2008 بانتخاب مرشح للرئاسة هو ابن مهاجر إفريقي مسلم أسود اللون، ولا ينحدر من سلالة العائلات البيضاء اللون الأوروبية الأصل، والتي تتوارث عادةً مواقع النفوذ والثروة، لكن خلف هذا الوجه لأميركا يوجد وجهٌ آخر، بشعٌ جداً، يقوم على العنصرية ضدّ كل المزيج الذي رمز له فوز أوباما في العام 2008.
فهي عنصريةٌ عميقة ضدّ الأميركيين ذوي البشرة السوداء، وهي عنصرية متجدّدة ضدّ كل أنواع المهاجرين الجدد من غير الأصول الأوروبية، وهي عنصرية نامية ضدّ الأقليات ذات الأصول الدينية الإسلامية. فكيف لو اجتمعت مع ذلك كلّه فعالية شركات ومصانع وقوى ضغط ومؤسسات مالية ضخمة لا تجد في أجندة أوباما وحزبه الديمقراطي ما يخدم مصالحها الداخلية والخارجية؟!
هكذا هي الآن المعركة الانتخابية غير التقليدية التي تحدث في الولايات المتحدة، فهي فعلاً صراعٌ بين نهجين مختلفين، ليس فقط في الأمور الاقتصادية التي تطغى على سطح الإعلام، بل أيضاً حول المضامين الاجتماعية والمسائل المرتبطة بالدين والعرق والثقافات. إنّها معركة كيفيّة رؤية أميركا للمستقبل وللاتّجاه الذي سيسير نحوه المجتمع الأميركي. فهو بالنسبة للجمهوريين المحافظين أشبه بانقلابٍ مطلوب على الانقلاب الذي حدث في العام 2008، بانتخاب باراك ابن المهاجر حسين أوباما كرئيسٍ للولايات المتحدة.
أمّا بشأن السياسات الخارجية، فهناك مساراتٌ متباينة ستحدث تبعاً لاحتمال فوز أيٍّ من المرشحين. ففي حال التجديد لأوباما، فإنّ إمكانات التفاهم الأميركي/الأوروبي مع روسيا والصين على قضايا دولية عديدة ستكون متوفّرة أكثر من حال فوز المرشح الجمهوري ميت رومني. كذلك الأمر بالنسبة للملف النووي الإيراني والمسائل الإقليمية الأخرى المعنيّة طهران بها، ومن ضمنها الآن الأزمة السورية والملف الفلسطيني.
إنّ فوز رومني سيحمل من جديد مخاطر السياسة والأجندة التي وضعها "المحافظون الجدد" في إدارة جورج بوش السابقة. وسيجد نتنياهو حليفاً قوياً له في "البيت الأبيض"، يوافقه على ضربات عسكرية استباقية لإيران، وعلى دفع منطقة الشرق الأوسط إلى مزيدٍ من الأزمات والحروب الإقليمية والأهلية التي تراهن عليها إسرائيل لتفتيت العالمين العربي والإسلامي.
أميركا المستقبل، ومستقبل "الشرق الأوسط"، هما أهمّ ما ينتظر الآن نتائج الانتخابات الأميركية.