لدى معظم العرب شعورٌ بالقرف والاشمئزاز ممّا يحدث الآن في المنطقة العربية. فالأمل العربي بالتغيير نحو الأفضل كان كبيراً مطلع العام الماضي، بعد ثورتي تونس ومصر، ثم بدأ هذا الأمل يضمحلّ شيئاً فشيئاً، حتّى في البلدان التي شهدت تغييرات في حكامها، لكن لم تشهد بعدُ تغييرات فعلية في مجتمعاتها، بل هي تخاف الآن على وحدة هذه المجتمعات، وعلى مستقبل هذه الأوطان.

صحيح أنّ سوء الأوضاع الرسمية العربية على مدى عقود من الزمن، أدّى ويؤدّي إلى حالات من الثورة والانتفاضات الشعبية، لكن ماذا عن البدائل التي ترث الآن أو تُحاول وراثة هذا الواقع العربي الرسمي المريض والمرفوض؟ وهل هذه البدائل هي ما كانت تطمح إليه الشعوب؟ وهل هي قادرة فعلاً على بناء مجتمعات موحّدة مستقرّة قائمة على العدل والمساواة، وضمانات الحريات العامة؟ ثمّ ماذا عن دور القوى الخارجية في كلَّ ما حدث ويحدث؟ وما الأهداف الكامنة عند هذه القوى من وراء دعمها لهذا الحراك الشعبي هنا وهناك؟!

صحيح أنّ الانتفاضات الشعبية العربية قد كسرت جدار الخوف السميك، الذي أقامته أنظمة عربية في جناحي الأمَّة في المشرق والمغرب، لكن يبدو أنّ الحكومات أقامت هذا الجدار على طرف هاوية، فيكون إسقاطه من قبل الشعوب مدخلاً بعد ذلك إلى السقوط في الهاوية.

وهذا هو بيت القصيد في مشكلة ما حدث ويحدث الآن من حراك شعبي عربي جارف، فالثورات تنجح وتستقطب دعماً شعبياً حينما تقوم على أسلوب سلمي سليم، متحرّر من أيِّ قيد أو دفع خارجي، وبعد إدراك واعٍ لظروفها وإمكاناتها، بحيث لا تُستغلّ أو تُسرَق، أو يتمّ حرفها عن مسارها الوطني التوحيدي.

إنّ ممارسات بعض قوى المعارضة العربية، لم تختلف عن أساليب الحكام لديهم. كذلك فإنّ ما حدث في ليبيا، وما يحدث الآن في سوريا، يضع علامات استفهام كبيرة عن دور الخارج ومصالحه في فرض أسلوب «عسكرة» التغيير المحلي المنشود، كما يُظهر أيضاً الفارق الكبير مع ما حدث في تونس ومصر من تغيير سلمي شمل عامّة الناس، رغم العنف الذي مارسته السلطات آنذاك ضد المتظاهرين السلميين.

هي مراهنة خطيرة جداً في بعض المجتمعات العربية، أن يحدث التغيير بواسطة التحرّك الشعبي المسلّح، لأنّ نتيجته حروب أهلية وتفتيت كيانات، لا إسقاط أنظمة فقط. ألم تتعلّم الأمَّة العربية بعد من دروس تجارب عربية سابقة في لبنان والجزائر والسودان والعراق والصومال..؟!

كذلك هي مراهنة خاطئة أيضاً، ومميتة أحياناً، عندما تُمارس الحكومات العنف الدموي القاسي ضدّ قطاعات من شعبها، حتّى لو كان وسط هذه القطاعات مندسّون وإرهابيون. فالعنف المسلّح الداخلي (مهما كان مصدره)، يُولّد مزيداً من الأزمات الأمنية والسياسية، ولم ينجح في أيِّ مكان بتحقيق مجتمعات موحّدة مستقرّة.

ثم أيُّ منطق عربي يُفسّر الآن كيف أنّ هناك هدنة في الأراضي الفلسطينية المحتلّة، اقتضت وقف العمليات العسكرية ضدَّ الاحتلال الإسرائيلي، بينما يتصاعد أسلوب العنف المسلّح داخل دول عربية؟ وهل هي صدفة سياسية أن يتزامن كل ذلك مع ارتفاع التعبئة الطائفية والمذهبية والإثنية في كلّ البلاد العربية؟!

اليوم، نجد ممارسات عربية للعنف المسلح داخل الأوطان نفسها، ومناشدات للأجانب من أجل التدخّل العسكري في أزمات عربية داخلية، بينما هناك تمسّك عربي عام بنهج أسلوب التفاوض مع إسرائيل، وبإسقاط خيار الحرب أو المقاومة المسلحة ضدّها، وبتفهّم «ظروف» حلفاء إسرائيل الدوليين، وعدم الضغط عليهم من أجل وقف دعمهم لعدوٍّ احتلّ الأرض وشرّد الملايين، وقتَل وجرَح على مدار أكثر من ستين عاماً عشرات الألوف، فلا ضرورة الآن حتّى لقطع العلاقات مع هذا العدوّ، رغم استمرار احتلاله وتهويده المتصاعد للقدس والأراضي المحتلة!

تُرى، لِمَ لا يتّم التوافق عربياً على أنّ «التفاوض هو الأسلوب الوحيد لحل النزاعات العربية»، وأن «لا لاستخدام العنف المسلّح». فقد جرى عملياً تبنّي هاتين المسألتين من قبل الحكومات العربية في رؤيتها للصراع مع إسرائيل؟!

إنّ القوى الكبرى تتعامل مع هذه المنطقة كوحدة متكاملة مستهدفة، وفي إطار خطّة استراتيجية واحدة لكلّ أجزاء المنطقة، بينما تتوزّع أوطان الأمّة العربية على أكثر من عشرين دولة، وهي مهدّدة الآن بمزيد من التقسيم والتشرذم.

ولقد أدّى هذا الواقع الانقسامي، ولا يزال، إلى بعثرة الطاقات العربية (المادية والبشرية)، وإلى صعوبة تأمين قوّة عربية فاعلة لمواجهة التحدّيات الخارجية، أو للقيام بدور إقليمي مؤثّر تجاه الأزمات المحلية، بل أدّى أيضاً لوجود عجز أمني ذاتي لا يمكّن من التعامل مع ما يطرأ من أزمات وصراعات داخل المنطقة، ويبرّر الاستعانة بقوى خارجية، قادرة على حلّ هذه الصراعات.

هذا الواقع العربي المرير، هو مسؤولية مشتركة بين الحاكمين والمعارضين معاً، فمن المهمّ أن تدرك المعارضات العربية أنّ الإصلاح المنشود مطلوب لها أيضاً، وأن يبدأ فيها أولاً، فالخلل والعلل في كلّ المجتمع، لذلك فالإصلاح المنشود للمجتمع كلّه. إنّ المعارضات العربية معنيّة بإقرار مبدأ نبذ العنف في العمل السياسي، واتّباع الدعوة السلمية القائمة على الإقناع الحر.

والتعامل بالمتاح من أساليب العمل السياسي، ثمّ التمييز الحازم بين معارضة الحكومات وبين تهديم الكيانات، حيث تخلط عدّة قوى عربية بين صراعها مع السلطات، وبين تحطيمها- بوعي أو بغير وعي - لعناصر وحدة المجتمع، ومقوّمات وحدته الوطنية. إنّ واقع الحال العربي اليوم يتطلّب فعلاً إصلاحات لأنظمة وحكومات، لكن يحتاج هذا الواقع أيضاً إلى حركات إصلاحية داخل قوى المعارضة العربية نفسها، التي تقود الآن الحراك الشعبي العربي.

ولعلّه من المهمّ كثيراً في هذه المرحلة، الفرز في الشعارات وفي القوى المنادية بها. فهل الهدف هو إسقاط أنظمة معينة فقط، أم هو تحقيق غايات الإصلاح، والتغيير الجدي المنشود في عموم المنطقة العربية؟ إذ ما الفارق بين الانقلابات العسكرية التي أوصلت بعض الحكّام للحكم، وبين من ينقلبون اليوم عليها بفعل عنف مسلح مدعوم عسكرياً من الخارج؟!

الآن، هناك من يتحدّث عن مسؤولية الحكومات فقط في تدهور الأوضاع كلّها، وهناك في المقابل من يتحدّث فقط عن مسؤولية القوى الخارجية، بينما في حقيقة الأمر الكلّ مسؤول عن كل ما يحدث، ومن يعفي نفسه من المسؤولية، هو غير جدير أصلاً بتحمّل مسؤولية قيادة حكم أو معارضة.