رغم تنوّع التحدّيات التي يواجهها العرب الآن، ومع اختلاف ساحاتها، فإنَّ كلاً منها يصيب المنطقة العربية كلّها ولا يعني بلداً دون الآخر، كما أنَّ للولايات المتحدة دوراً حاسماً في كيفيّة التعامل سلباً أم إيجاباً مع كلِّ عنصرٍ من هذه التحدّيات. والمؤسف في واقع الحال العربي، أنَّه رغم الاشتراك في التحدّيات والهموم، فإنَّ الحكومات العربية تتعامل مع هذه المسائل (ومع غيرها أيضاً) من منظورٍ فئويٍّ خاصّ، لا في إطار رؤيةٍ عربيةٍ مشتركة تحقِّق المصالح العربية.
وإذا كان من الطبيعي أن تكون المنطقة العربية في مقدّمة الدول التي تضع الآن نفسها على "لائحة الانتظار"، لمعرفة تفاصيل السياسة التي سيتّبعها الرئيس الأميركي أوباما في بداية عهده الثاني.
فإنّ من غير الطبيعي أن تستمرّ الأوضاع العربية مرهونةً بما يريده الخارج، أو بما يحدث فيه من متغيّرات، دون أي تدخّل فاعل للإرادة العربية، أو بسبب عدم وجود إرادة عربية مشتركة أصلاً كي تتعامل مع المشاريع الدولية والتحديات الإقليمية، بما يُحقق المصالح العربية، ولا ينعكس سلباً على شعوب الأمّة وأوطانها.
أيضاً، هناك حالة ترقّب وانتظار (عربية ودولية) لمعرفة ما ستفرزه الانتخابات الإسرائيلية من حكومة جديدة، وما ستقرّره لاحقاً بشأن مصير الاتفاقات والمفاوضات مع السلطة الفلسطينية، وأزماتٍ أخرى في المنطقة.
فالمراهنات العربية على "الخارج" هي، لحوالي قرنٍ من الزمن، سمة السياسات الرسمية العربية. وباستثناءٍ محدود في عقديْ الخمسينات والستينات من القرن الماضي، فإنّ الاستقطاب الدولي لدول المنطقة العربية، كان الحالة الغالبة على قضاياها وحكوماتها. وها هي المنطقة الآن تعيش مرحلةً جديدة من الاستقطابات الدولية/ الإقليمية، في ظلّ تفجّر بعض أوطانها من الداخل، وفي غيابٍ متواصل لمشروعٍ عربيٍّ مشترَك ولإرادة عربية مشتركة.
إنّ انعدام الرؤية العربية المشتركة، سببه أولاً غياب دور مصر الريادي التاريخي، ثمّ حالة الصراعات العربية وتجزئة الإمكانات والطاقات العربية، ممّا يجعل "رغبات" الخارج أشبه ما تكون بأوامر سياسية يتوجَّب تنفيذها، وإلا فإنَّ الضغوط تفرض تنفيذ هذه "الرغبات"! فالمشكلة عربياً هي انعدام القرار العربي في وضع رؤيةٍ عربية مشتركة.
وفي عدم تحمّل مسؤوليات الدور القيادي المتوجَّب على أكثر من طرفٍ عربي. وستبقى التحدّيات على العرب قائمةً، بل ومتراكمة، طالما أنَّ منهاج التعامل معها لا يخرج عن صفقاتٍ فئوية تحدث في السرِّ والعلن، فتُحقِّق منافع خاصَّة لكنّها لا تؤدّي إلى معالجة الأمراض العامَّة في المنطقة، وتتحوَّل إلى أوبئةٍ تصيب أيضاً من عقدوا الصفقات واعتقدوا أنَّهم قد حقَّقوا الأمن الخاص لأنفسهم.
لكن الحديث عن أهمّية التضامن العربي هو الآن مجرّد أمنية، فتداعيات التحدّيات الخطيرة التي تواجه الأمَّة العربية تجعل الوضع العربي؛ بواقعه القديم العجوز وجديده العاجز، مهموماً بأكثر من قضية، في ظلِّ أكثر من رؤية وقيادة، لأمّةٍ محكوم عليها بالخيار بين حاضرٍ مذموم ومستقبلٍ مجهول.
إنّ التشويه يحصل الآن للصراعات الحقيقية القائمة في المنطقة، ولمواصفات الأعداء والخصوم والأصدقاء، بحيث لم يعد واضحاً مَن العدوّ ومَن الصديق، وفي أيِّ قضية أو معركة، ولصالح من؟! بينما الأمّة العربية اليوم في انشدادٍ كبير إلى صراعاتٍ داخلية قائمة، ضحاياها ليسوا من البشر والحجر في الأوطان فقط، بل سقط ضحيّتها أيضاً الكثير من القيم والمفاهيم والأفكار وعناصر الوحدة الوطنية.
فالدين والطائفة والمذهب، كلّها تسميات أصبحت من الأسلحة الفتّاكة المستخدمة في هذه الصراعات. كذلك العروبة والوطنية، هما الآن أيضاً موضع تفكيك وتفريغ من أيّ معنًى جامع أو توحيدي، في الوقت الذي يتمّ فيه استخدامهما لصراعاتٍ مع جوارٍ "عربي" أو "إسلامي"!
والحرّية والديمقراطية مطلبان يتصادمان الآن، فالنماذج "الديمقراطية"، التي جرى التشجيع في العقد الماضي عليها، كانت تقوم على قبولٍ بالوصاية الأجنبية على الأوطان، من أجل الحصول على آليات ديمقراطية في الحكم!
ورغم ومضات الأمل، التي تظهر عربياً بين فترةٍ وأخرى، ورغم استمرار العمل من أجل التغيير السليم على أكثر من ساحةٍ عربية، فإنّ المراوحة في المكان نفسه (إن لم نقل التراجع)، هي السمة الطاغية على الأوضاع العربية.
وقد تعرّضت خلال العقود الماضية أممٌ كثيرة إلى شيء من الأزمات التي تواجه الآن العرب، كمشكلة الاحتلال أو التدخّل الأجنبي، أو كقضايا الاستبداد والفساد، أو سوء الحكم والتخلّف الاجتماعي والاقتصادي، أو مسألة التجزئة السياسية بين أوطان الأمّة، أو الحروب الأهلية في بعض أرجائها.. لكن من الصعب أن نجد أمّةً معاصرة امتزجت فيها في آنٍ واحد كلّ هذه التحدّيات.
كما هو حاصلٌ الآن على امتداد الأرض العربية. فخليط الأزمات أدّى ويؤدّي إلى تيهٍ في الأولويات، وإلى تشتّت القوى والجهود، وإلى صراع الإرادات المحلية تبعاً لطبيعة الخطر المباشر، الذي قد يكون ثانوياً لطرفٍ من أرجاء الأمّة بينما هو الهمّ الشاغل للطرف الآخر. إنّ الأوطان العربية مهدّدةٌ الآن بمزيدٍ من التشرذم، ليس حصيلة التدخل الأجنبي والدور الإسرائيلي فقط، بل أصلاً بسبب البناء الهش لدول هذه الأوطان، ولعدم تحصينها ضدّ التدخلات الأجنبية.
فالمنطقة العربية لم تستفد من دروس مخاطر فصل حرّية الوطن عن حرّية المواطن، ولا من دروس التجارب المرّة في المراهنة على الخارج لحلِّ مشاكل عربية داخلية. والأهمُّ في كلّ دروس تجارب العرب الماضية، والتي ما زال تجاهلها قائماً، هو درس مخاطر الحروب الأهلية والانقسامات الشعبية على أسسٍ طائفية أو إثنية، حيث تكون هذه الانقسامات دعوةً مفتوحة للتدخّل الأجنبي ولعودة الهيمنة الخارجية من جديد.
أمرٌ ملفت للانتباه، ما حدث ويحدث في مصر وتونس واليمن. ففي هذه البلدان الثلاثة كان الجيل الجديد، غير الحزبي أو المنظّم سياسياً، هو أساس الحراك الشعبي السلمي الذي حدث في كلٍّ منها، والذي أدّى إلى تغييراتٍ في الحكم والقوى السياسية الحاكمة.
لكن، إلى الآن، نجد أنّ هذه القوى الشبابية الثائرة لم تقتطف ثمرة هذه الانتفاضات الشعبية، بل حصدت النتائج السياسية قوًى لها تاريخها العريق في العمل السياسي وفي المعارضة، لكنّها حتماً لم تقد هي الانتفاضات الشعبية، ولم تُشعل شرارتها، ولم تصنعها.
هي معضلةٌ ترمز أيضاً إلى حال كثير من البلدان العربية الأخرى، حيث يحصل حراكٌ شعبيٌّ شبابي في معظمه، لكن بلا وضوح في القيادة والهُويّة الفكرية والسياسية، وإذا حصل أحياناً هذا الوضوح، نراه بعيداً عن السّمة الوطنية العامة، ونافراً من الهوية العربية، ومتّصفاً بالفئوية الطائفية والحزبية.
رغم ذلك، ستبقى المراهنة دوماً على الأجيال الشّابة، وعلى دورها الفاعل في صناعة المستقبل، وفي إحداث التغيير السليم في الأوطان العربية نحو الأفضل.