تعيش مصر الآن، وكذلك إلى حدٍّ كبير تونس وليبيا واليمن، حالاً من عدم الاستقرار السياسي والأمني، يرافقه الكثير من مظاهر السخط الشعبي، بسبب عدم تحقيق الآمال التي كانت معقودة على تغييرات حدثت خلال العامين الماضيين في أنظمة هذه الدول.
أمّا في سوريا، فالوضع أسوأ وأصعب من أيِّ بلد عربي آخر، شهد أو يشهد حراكات شعبية ساعية للتغيير السياسي، حيث اختلط الحراك الشعبي هناك مع ممارسات عنفية مسلّحة، تقوم بها السلطات وقوى معارضة لها، إضافة إلى دخول جماعات متطرّفة مسلّحة للأراضي السورية، وهيمنتها على عدّة مناطق، ما يُهدّد وحدة الوطن والشعب في سوريا، ويجعل حاضرها ومستقبلها رهينتيْ حرب أهلية مدمّرة، ستمتدّ نيرانها حتماً لكلّ المشرق العربي.
وإذا كان النظام السياسي الجديد في مصر، مثلاً، يواجه في مناطق مختلفة من ربوعها حراكاً شعبياً واسعاً مضاداً له، فإنّ استخدام الحكومة المصرية للعنف في مواجهة هذا الحراك، أو في استصدار القوانين القمعية له، لا يجعلها تختلف أبداً عن النظام السابق وحججه وأساليبه. فالحل ليس بمزيد من المواجهات مع الحراك الشعبي المتصاعد، بل بالتجاوب مع المطالب المحقّة التي أدّت إلى حال الغليان الشعبي المصري من جديد.
ومن المهمّ أن يدرك قادة النظام السياسي الحالي في مصر، أنّ «الشرعية» التي يستندون إليها في قراراتهم، هي موضع تشكّك وتحفّظ من أغلبية الشعب المصري، فلا الرئيس حصل على تأييد أكثرية من يحقّ لهم الاقتراع، ولا الدستور الأخير أيضاً فاز بهذه النسبة من الموافقة الشعبية. هنالك ضرورة إذن للعودة إلى الشعب، والاحتكام لخيارات الأكثرية فيه، وذلك لا يكون إلاّ من خلال رئيس يقبل بدوره كَراعٍ للتوافق الوطني، لا كممثّل فقط لحزب أو فئة. ثمّ إن التوافق الوطني المصري المنشود على مستقبل المؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية، يقتضي أولاً التوافق على دستور وطني جديد، يكون شرط إقراره هو فوزه بأغلبية الثلثين، لا بأكثرية عدد المقترعين التي قد لا تُعبّر حتّى عن ثلث الشعب المصري.
إنّ «الاحتكام للشعب» هو أيضاً الحلّ المطلوب لما يحدث من نزيف دم في سوريا، يتحمّل مسؤوليته الآن بشكل مشترَك، الداخل السوري والخارج المتورّط فيه، الحكم والمعارضة معاً. وليكن الشعب السوري فعلاً هو المرجعية لتقرير مصير وطنه وحكمه، من خلال فترة انتقالية قصيرة، تُشرف على أعمالها ومراحلها مؤسسات دولية نزيهة، ومراقبون دوليون (عسكريون وقانونيون)، بحيث تجري انتخابات مجلس الشعب (النواب)، باعتماد قانون التمثيل النسبي، ومن ثمّ ينتخب هذا المجلس رئيساً لحكومة واسعة الصلاحيات، إلى حين إقرار دستور جديد يجري الاستفتاء عليه، وبعد موافقة ثلثي المقترعين، تحصل انتخابات رئاسة الجمهورية.
إنّ مثل هذه الصيغة، تتطلّب أولاً إسقاط كل الشروط الموضوعة الآن من كل الأطراف، والتي هي عقبات تمنع تنفيذ الحلّ السياسي. وهي صيغة تضمن تمثيل كلّ الأطراف والطوائف، من خلال اعتماد قانون التمثيل النسبي في نتائج الانتخابات، والذي ثبت أنّه الأصلح في المجتمعات القائمة على التعدّدية.
إنّ على الأطراف العربية، المعنيّة الآن بالأزمة السورية، أن تبادر إلى تبنّي مثل هذه الصيغة من التسوية السياسية، وإلى التشجيع عليها سوريّاً وإقليمياً ودولياً، خاصة عشيّة القمّة الأميركية/ الروسية المتوقَّعة منتصف الشهر القادم، وبالتالي، عدم انتظار الترياق دائماً من الخارج، ففي كلّ يوم يمرّ، هناك ضحايا سوريون يسقطون، كمحصّلة لمنطق الحل العسكري السائد الآن على الأرض السورية.
هناك حتماً أبعاد خارجية مهمّة للصراع المسلّح الدائر الآن في سوريا، وهو صراع إقليمي/ دولي على سوريا، وعلى دورها المستقبلي المنشود عند كلّ طرف داعم أو رافض للنظام الحالي في دمشق. لذلك نرى اختلاف التسميات لما يحدث في سوريا، فمن لا يريد تبيان الأهداف الخارجية للصراع، يصرّ على وصف ما يحدث بأنّه «ثورة شعبية على النظام»، فقط لا غير. ومن لا يعبأ بالتركيبة الدستورية السورية الداخلية وبطبيعة الحكم، وتهمّه فقط السياسة الخارجية لدمشق، يحرص على وصف ما يحصل بأنّه «مؤامرة كونية». في الحالتين هناك ظلم للواقع، وتضليل سياسي وإعلامي لا تحمد عقباه، على الشعب السوري وعلى المنطقة كلّها.
وكما كانت حرب لبنان عام 1975 حرباً مركّبة الأسباب والعناصر والأهداف، كذلك هي الآن الحرب الدائرة في سوريا وعليها. فالأبعاد الداخلية والإقليمية والدولية كلّها قائمة وفاعلة في يوميّات الحرب السورية، والأخطر فيها عملياً، هو مصطلح «الحرب الأهلية». فهكذا أيضاً جرت مسيرة الحرب اللبنانية، التي كان البعض يرفض اعتبارها في سنواتها الأولى حرباً أهلية لبنانية.
سوريا الآن، كياناً وحكومةً وشعباً، أمام خيارات صعبة لا يُعبّر أيٌّ منها عن «رغبات» أيِّ طرف محلي أو خارجي معنيٍّ الآن بتطوّرات الأزمة السورية. فالفارق كبير بين «المرغوب فيه» و«الممكن فعله». فقط «الرغبات» الإسرائيلية من تطوّرات الأزمة السورية، هي التي تتحقّق الآن، وهي مزيد من التفاعلات السلبية أمنياً وسياسياً، وعدم التوصل إلى أيِّ حلٍّ في القريب العاجل.
فمن مصلحة إسرائيل الآن بقاء هذا الكابوس الجاثم فوق المشرق العربي، والمهدّد لوحدة الأوطان والشعوب، والمنذر بحروب أهلية في عموم المنطقة، والمُهمّش للقضية الفلسطينية. إنّ إدارة أوباما لا تجد الآن أمامها إلا خيار البحث عن تسوية سياسية للملفّين الإيراني والسوري، وما لهما من علاقة مؤثّرة متبادلة.
فمصير العلاقة الأميركية/ الأوروبية مع روسيا والصين، يتوقّف الآن على كيفيّة التعامل مع هذين الملفين في الشرق الأوسط. وستحصل الآن، قبل القمة الأميركية/ الروسية، محاولات لتحسين «الموقف التفاوضي» لكلّ طرف إقليمي ودولي على أرض الصراعات في المنطقة، لكن سيكون في النتيجة «الممكن» التوصّل إليه، هو أقلّ من مستوى مما «يرغب» فيه أي طرف. فبديل هذه «التسويات»، سيكون فيه العالم كلّه على شفير هاوية لا يريد «اللاعبون الكبار» التدحرج عليها!. أمّا الحكومات العربية عموماً، فهي أيضاً أمام خيارات «الممكن عمله» وليس «المرغوب فيه». و«الممكن الآن عمله» هو، إمّا انتظار الخارج ليقرّر مصير الأنظمة والأوطان والأمّة، أو «الاحتكام فعلاً للشعب» وليس مجرّد حكمه إلى حين!.