يشهد العالم في هذه الفترة تحركاً دبلوماسياً كبيراً في الملفين السوري والإيراني، وصل درجة من النشاط بحيث كثرت التوقعات عن إمكانية تفاهم الدول الكبرى مع إيران بشأن ملفها النووي، وعن وجود توافق أميركي ـ روسي حول ضرورة وضع تسوية سياسية للأزمة الدامية في سوريا.

لم يكن الأمر هكذا في الأشهر والسنوات القليلة الماضية، فالتباين في المواقف بين موسكو وبكين من جهة، وبين واشنطن والاتحاد الأوروبي من جهة أخرى، كان في السابق قد بلغ درجة كبيرة من السخونة، خاصة في الموقف من تطورات الأوضاع السورية.

وقد لمس "حلف الناتو" جدّية الموقفين الروسي والصيني، و"الخطوط الحمراء" التي وضعتها موسكو ضدّ أيّ عملٍ عسكري أجنبي على إيران، أو في سوريا.

لقد أدركت الولايات المتحدة، وخلفها الحليف الأوروبي، مخاطر التأزّم في العلاقات مع موسكو وبكين في هذه المرحلة، التي وقف فيها الاقتصاد الأوروبي والأميركي على حافة الهاوية، وحيث توجد أيضاً حاجةٌ قصوى لعلاقات طيّبة مع روسيا الاتحادية، لتسهيل انسحاب قوات "الناتو" من أفغانستان، والتي تعاني من أوضاع صعبة تتفاقم يوماً بعد يوم.

كما أدركت واشنطن أن فلاديمير بوتين عاد لرئاسة روسيا الاتحادية، على قاعدة السياسة التي أطلقها أولاً عام 2007 في مؤتمر ميونخ، حيث أكّد آنذاك رفضه للقطبية الدولية الواحدة وللانفراد الأميركي بتقرير مصير العالم، ما اعْتبِر حينها نقطة تحوّل في سياسة موسكو ما بعد الاتحاد السوفييتي.

 ومنذ ذلك التاريخ، تنظر روسيا إلى السياسة الأميركية على أنّها مصدر خطر مباشر على المصالح الروسية. وكذلك، نظرت موسكو إلى الوجود العسكري الأميركي في منطقة الخليج العربي، وفي أفغانستان، وفي جمهوريات آسيوية إسلامية، باعتباره تطويقاً شاملاً للأمن الروسي، يتكامل مع امتداد "حلف الناتو" في أوروبا الشرقية.

لكن هذه السياسة الروسية "البوتينية"، المستمرة عملياً منذ 2007، لم تكن ساعيةً بالضرورة إلى عودة أجواء "الحرب الباردة"، ولا أيضاً إلى سباق التسلّح والحروب غير المباشرة بين موسكو وواشنطن، بل كان هدف روسيا في السنوات القليلة الماضية، ومن خلال السير بخطى ثابتة ولو بطيئة، هو استعادة بعض مواقع النفوذ التي فقدتها عقب سقوط الاتحاد السوفييتي. وها هي الآن، موسكو غير الشيوعية، تعود إلى منطقة "الشرق الأوسط" دولةً كبرى، قادرةً على المنح والمنع معاً!

إنّ العالم قد شهد، بعد فشل سياسة إدارة جورج بوش الابن، هبوطاً متدرّجاً لدور الإمبراطورية الأميركية، مقابل تصاعدٍ ملحوظ لدور روسيا والصين. وما حدث من توتّر وخلافات، خاصة بين واشنطن وموسكو، لم يكن غيمةً عابرة كما اعتقد البعض، لكنها أيضاً لم تكن حربا باردة جديدة بين قطبين دوليين متنافرين أيديولوجياً، كما كان الأمر في القرن الماضي. فأولويّات روسيا وأميركا الآن هي مصالحهما المباشرة، وعدم رغبتهما (إن لم نقل عدم قدرتهما) على استنزاف متبادل يضرّ بهما معاً.

وتتصرّف موسكو حالياً مع إدارة أوباما على أنها أكثر تفهّماً للموقف الروسي، وبأمل أن يواصل الرئيس أوباما السياسات التي أعلنها حينما تولّى الحكم عام 2009، لجهة وقف الانفراد الأميركي في القرارات الدولية، وباحترام مرجعية الأمم المتحدة ومجلس الأمن فيها.

لذلك وجدنا أنّ الطرفين كانا حريصين في الفترة الماضية، على إبقاء الصراع بينهما مضبوطاً بسقفٍ محدد، وبالتأكيد على مواصلة التشاور بينهما، وعلى عدم دفع الخلافات بينهما إلى حائط مسدود.

إنّ لائحة القضايا المختلَف عليها بين موسكو من جهة، وواشنطن و"الناتو" من جهة أخرى، هي بلا شك لائحة كبيرة، لكنّ موسكو تدرك أيضاً حاجة واشنطن و"حلف الناتو" للتنسيق معها في القضية الأفغانية، وفي الملف الإيراني، وفي الموقف من كوريا الشمالية.

فالحرب في أفغانستان مثلاً جرت وتستمر في إطار مسؤولية الولايات المتحدة، ومشاركة قوات أوروبية وكندية تريد الآن كل دولها الخروج من المستنقع الأفغاني، بينما تستفيد موسكو طبعاً من محاربة "الناتو" لجماعات "طالبان" و"القاعدة"، ودرء مخاطرها عن الأمن الروسي في أقاليم إسلامية تابعة للاتحاد الروسي، أو في جمهوريات دائرة في فلكه.

لكن موسكو أيضاً لم تجد ضرراً من انغماس "الناتو"، في مستنقعٍ ساهم أصلاً في إسقاط روسيا السوفييتية وقلّص من حجم نفوذها الدولي. إنّ روسيا، بغضّ النظر عن نظام الحكم فيها، لا يمكن لها أن تكون منعزلةً أو محصورةً فقط في حدودها. هكذا كانت روسيا القيصرية، وروسيا الشيوعية، وهكذا هي الآن روسيا "البوتينيّة".

ولقد حقّقت إدارة بوتين، بعد توليه الحكم عام 1999، إنجازاتٍ ضخمة على الصعيدين الداخلي والخارجي.

فمعدّلات التضخّم في روسيا كانت حينما استلم بوتين الحكم حوالي 37%، وكان حجم الديون الخارجية يتجاوز 165 مليار دولار لدولةٍ انتشر فيها الفساد والفقر وسوء الإدارة على كل المستويات.

وقد استطاع بوتين في سنوات حكمه كرئيس، ثم في فترة رئاسته فيما بعد للحكومة، تخفيض معدّل التضخّم، وتسديد كافّة الديون الخارجية، وامتلاك احتياطي من الذهب بمئات المليارات من الدولارات.

صورة معاكسة تماماً حدثت في الولايات المتحدة في فترتيْ حكم بوش الابن، المتزامنتين مع فترة حكم بوتين الأولى. فأميركا عانت اقتصادياً واجتماعياً، من السياسات الداخلية والخارجية التي اتبعتها إدارة الجمهوريين والمحافظين الجدد.

وقد ساهمت السياسة الخارجية السيّئة لإدارة بوش، إلى حدٍّ كبير، في تدهور أوضاع الاقتصاد الأميركي، وحصول انقسام سياسي حاد داخل المجتمع الأميركي.

فالعالم شهد بعد انتهاء العقد الماضي، هبوطاً متدرّجاً لدور الإمبراطورية الأميركية، مقابل تصاعد ملحوظ لدورٍ روسي قاده بوتين، ويستمرّ الآن في رعايته.

طبعاً هناك مصلحة لكل شعوب العالم، في تصحيح الخلل الحاصل في ميزان العلاقات الدولية، والعودة إلى مرجعية دولية متوازنة في التعامل مع الأزمات القائمة حالياً، ووقف التفرّد الأميركي الذي حصل في ظلّ إدارة بوش الابن، والحروب التي خاضتها خارج مرجعية "مجلس الأمن الدولي". وإذا أحسنت القوى الكبرى توظيف هذه المرحلة، فإنّ ذلك قد ينعكس إيجاباً على كل الأزمات الدولية، وفي مقدّمتها الآن أزمات منطقة "الشرق الأوسط".

لكنّ الصراع السياسي، الذي شهده العالم مؤخراً بين موسكو وواشنطن، هو صراع مصالح ونفوذ، وليس صراعاً أيديولوجياً يجب أن تنتهي بهزيمة أحد الطرفين. لذلك لا يصحّ عربياً المراهنة على أي طرف خارجي (إقليمي أو دولي) في تحقيق المصالح العربية. فالمصالح الوطنية والقومية العربية، تتطلّب أولاً الاعتماد على الذات العربية، وتحسين واقع الحال العربي في أجزائه الوطنية وفي كلّيته العربية، وهذا ما لم يتحقّق بعد!