تعيش عدّة بلدان عربية في الوقت الراهن، صراعاتٍ على السلطة. هي صراعاتٌ سياسية حتماً، مهما حاول البعض تشويهها بأسيد طائفي ومذهبي أو بألوان أيديولوجية دينية أو إثنية مختلفة. صراعات محلّية طبعاً، لكن تدعمها وتوظّفها قوى خارجية.
وهي صراعات ممزوجة مع القضية الفلسطينية، ومع مسألة المقاومة ضدّ الاحتلال، وبالموقف الإسرائيلي من القوى المحلّية المتصارعة، وبمواقف هذه القوى من ظواهر التدخّل الأجنبي. فهو أيضاً صراعٌ دولي وإقليمي في منطقة الشرق الأوسط، لكن أدواته وساحاته هي بلاد العرب وشعوبها.
وفي كلّ أماكن هذه الصراعات، هناك تهديدٌ حقيقي للوحدة الوطنية، ومخاطرُ نشوب حروبٍ أهلية. لكن ليس العامل الخارجي السلبي هو الوحيد المشترك بين أزمات عدة بلدان عربية، ففي هذه الأزمات جذور عميقة لسلبياتٍ داخلية، تتحمّل مسؤوليتها حكومات و«معارضات» محلية عربية، بل إنّ هذه الجذور السلبية الداخلية، هي الحافز دائماً المشجّع للتدخّل الأجنبي، الدولي والإقليمي.
حتّى الذين يحملون ألوية التحرّر ومشاعل المقاومة ضدّ الاحتلال، هم أيضاً يحملون راياتٍ فكرية وسياسية لها سماتٌ فئوية، فينجحون في المواجهة العسكرية مع المحتل، لكنّهم يتعثّرون في مواجهة الأهداف السياسية له. فإسرائيل والقوى الأجنبية التي تدعمها، عملت وتعمل على تمزيق الشعوب العربية وتفريقها لتسهّل السيادة عليها، حتى لو تطلّب الأمر إشعالاً لحروبٍ أهلية.
وحتى لا يعتقدَنَّ أحدٌ أنّ في ذلك ملامة للمقاومين على مقاومتهم، فإنّ أساس الخلل الراهن في جسم الأمَّة العربية، هو في رؤوسها الحاكمة، وفي عقول العديد من المفكّرين والسياسيين وعلماء الدين، الذين فشلوا عملياً في الحفاظ على الظاهرة الصحية بالتعدّد الطائفي والمذهبي والإثني في مجتمعاتهم، حيث أصبحت الأفكار والممارسات تصبّ كلّها في أطرٍ فئوية، موجّهة كالسّهام ضدّ الآخر في ربوع الوطن الواحد.
فالتعدّدية كانت قائمة في البلاد العربية خلال الخمسينات والستينات من القرن الماضي، لكنّها لم تكن حاجزاً بين الشعوب، ولا مانعاً دون خوضٍ مشترَك لمعارك التحرّر والاستقلال الوطني، بل كانت مفخرةُ معارك التحرّر آنذاك أنّها تميّزت بطابع وطني عام صبغ القائمين بها، فكانت مجسّدةً فعلاً لتسمية «حركة تحرّر وطني».
اليوم، نتعايش مع إعلامٍ عربي وطروحاتٍ فكرية وسياسية، لا تخجل من توزيع العرب على طوائف ومذاهب وأقلّيات، بحيث أصبحت الهويّة الوطنية الواحدة غايةً منشودة، بعدما جرى التخلّي المخزي عن الهويّة العربية المشتركة.
هو انحطاط، وهو انحدارٌ حاصلٌ الآن، بعدما استباحت القوى الأجنبية (الدولية والإقليمية)، وبعض الأطراف العربية، استخدامَ السلاح الطائفي والمذهبي والإثني في حروبها، وفي صراعاتها متعدّدة الأمكنة والأزمنة خلال العقود الأربعة الماضية.
وقد ساهمت في ترسيخ هذا الواقع الانقسامي الأهلي، على المستوى الشعبي العربي، هيمنةُ الحركات السياسية ذات الشعارات الدينية، وضعفُ الحركات السياسية ذات الطابع الوطني أو العربي التوحيدي. فالعرب الآن هم بلا قضيةٍ واحدة، وبلا قيادةٍ جامعة.
وتزداد لدى معظم العرب حالات القنوط والإحباط ممّا يحدث على الأرض العربية، من قتلٍ وصراعاتٍ وانقسامات. وهي حالةٌ معاكسة تماماً لما ساد المنطقة في مطلع العام 2011، حينما نجحت الانتفاضات الشعبية في تونس ومصر في إحداث تغييراتٍ سياسية سلمية، وفي تأكيد حيويّة الشارع الشعبي وطلائعه الشبابية.
لكن حتّى التغيير السلمي الذي حصل في تونس ومصر، ما زال يمرّ بمرحلةٍ انتقالية لم تتّضح آفاقها بعد، ولا هو الآن مصدر أمل بمستقبلٍ أفضل. أمّا ما يحدث في بلدان عربية أخرى، فهو بلا شك السبب الأهم لما نشهده من قنوطٍ عربي، ومن مخاوف متزايدة من حدوث الأسوأ في هذه البلدان.
وفي جوارها. وقد شهدنا في الفترة الماضية تفسيراتٍ مختلفة للتراجع الحاصل في عموم المنطقة العربية، وللهواجس التي تشغل الآن بالَ كلّ إنسانٍ عربي، لكن قلّة من هذه التفسيرات تضع الإصبع على الجرح العربيِّ الأكبر. فأساس المشكلة أصلاً في المجتمعات العربية نفسها، وبكلِّ من فيها؛ حاكماً كان أو محكوماً، في موقع المسؤولية أو في موقع المعارضة.
إنّه انحطاطٌ عربي فعلاً ما يحصل الآن، فالأمَّة العربية تعيش تحوّلاتٍ سياسية خطيرة، هي نتاجٌ طبيعي لتراكم ما حدث من تفاعلات ومتغيّرات في الأربعين سنة الماضية، كان «الخارج» و«الداخل» فيها مسؤوليْن عن عصارة السلبيات التي تنخر حالياً في جسد الأمَّة، والتي أدّت إلى انتفاضاتٍ شعبية عارمة، بعضها اختار الأسلوب السلمي في حراكه وما زال يتعثر في إحداث التغيير الحقيقي، والبعض الآخر أخطأ السبيل، عن قصدٍ أو عن غير قصد، فسقط في وحل العنف الدموي الذي يُغرق أصحابه والوطن كلّه.
هي مشكلةٌ كبرى حين يوجد حراكٌ شعبيٌّ مهم، لكن في اتجاهٍ غير صحيحٍ حيناً، أو بتحريفٍ محلي وتوظيفٍ خارجي له أحياناً أخرى. وما يحدث حاليّاً في عددٍ من البلاد العربيّة هو امتحان جدّي وصعب لهذه الأوطان، من حيث قدرتها على التّعامل في آنٍ واحد مع ضرورات التغيير والإصلاح السياسي من جهة، ومع التدخل الخارجي الذي يُشجّع على حال الشّروخ والانقسامات التي تنتشر الآن، من جهةٍ أخرى.
فغياب الفهم الصّحيح للدّين وللفقه المذهبي، ولمفهوم «الهُوية» الوطنية والعربية، ولكيفية العلاقة مع الآخر، أيّاً كان هذا الآخر، هو البيئة المناسبة لأي صراع طائفي أو إثني، يُحوّل ما هو إيجابي قائم على الاختلاف والتنوّع والتّعدّد إلى عنفٍ دموي، ويُناقض جوهر الرّسالات السّماويّة، ويُحطم الوحدة الوطنية، ويقضي على الهويّة الثقافية العربية المشتركة.
صحيحٌ أنّه كلّما غابت البنى السياسية والدستورية والاجتماعية السليمة في المجتمعات، بات ذلك مبرّراً للتدخّل الأجنبي ولمزيدٍ من الانقسام بين أبناء الوطن الواحد، لكن تزداد أيضاً المشاكل الداخلية تأزّماً كلّما ارتهن البعض لإرادة الخارج، سعياً لإسقاط حكم أو للوصول إلى الحكم، فهذا يضع الجميع لاحقاً، والأوطان معاً، في مهبّ المصالح الخارجية حصراً.
هل وصل العرب إلى قعر المنحدر بحيث لا يوجد أمامهم الآن أي خيار سوى التطلّع إلى الأعلى/ الأفضل والسعي للوصول إليه؟! أم أنّ أزمات المنطقة ما زالت حبلى بما هو أسوأ وبمنحدر أعمق مما هم عليه الآن؟! الحال هو فعلاً كما صاغه الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي بقوله:
«ومن لا يحب صعودَ الجبالِ يعشْ أبدَ الدّهرِ بين الحُفَر». لكن كيف سيكون هناك مستقبلٌ أفضل للشعوب والأوطان، وللأمّة ككل، إذا كان العرب مستهلكين بأمورٍ تُفرّق ولا تجمع؟ وكيف بالله تستطيع أمّةٌ أن تنهض من كبوتها وممّا هي عليه من سوء حال، إذا كان العديد من صانعي الرأي والفكر والفقه فيها يتنافسون على الفضائيات وعلى المنابر في ما يؤدّي إلى مزيدٍ من عوامل الانقسام والانحدار والانحطاط في أحوال الأوطان والمواطنين؟!