هل كانت صدفةً أن يحصل القصف الإسرائيلي لمواقع مجاورة لدمشق، بعد أيامٍ قليلة فقط من استعادة الحكومة السورية سيطرتها على مناطق كانت تُهيمن عليها قوًى من المعارضة المسلّحة؟ وهل كانت صدفةً أيضاً أن يحصل هذا التطوّر العسكري الخطير عشيّة زيارة وزير الخارجية الأميركي لروسيا وزيارة نتانياهو للصين، وهما البلدان الرافضان للتدخّل العسكري الخارجي في الحرب الدموية الدائرة في سوريا؟ وهل كانت واشنطن على علمٍ مسبَق بالقرار الإسرائيلي؟
ثمّ أكانت صدفةً أيضاً أن تقوم إسرائيل بهذا التدخّل العسكري المباشر في أحداث سوريا، بعدما حاولت في الأسبوع الذي سبق هذا العدوان أن تدفع الولايات المتحدة للتورّط العسكري من جديد في المنطقة بحجّة استخدام النظام السوري للسلاح الكيميائي، وما كان يمكن أن يعنيه هذا التورّط الأميركي، لو حصل، من مواجهة مع إيران وحلفائها، وهو أمر يصرّ نتانياهو على تحقيقه منذ وصوله للحكم قبل أربع سنوات؟!
هي تساؤلات عديدة تجري الآن، ومعها يدور السؤال أيضاً عن كيف سيكون التعامل السوري والعربي والدولي مع تداعيات العدوان الإسرائيلي واحتمالات ردود الفعل عليه. البعض توقّع أن يكون هذا الأمر مقدّمة لحربٍ إقليمية لا أحد يعرف حدودها ونتائجها، لكني ما زلت أعتقد أنّ هذا التصعيد العسكري الإسرائيلي الخطير سيتمّ ضبط تفاعلاته، بحيث لا يؤدي إلى حربٍ إقليمية ولا إلى مواجهة بين القوى الكبرى الدولية والإقليمية.
ما يحصل في سوريا الآن أشبه بتقاطع طرق لمشاريع عديدة في المنطقة، بحيث نرى تكاملاً بين بعضها وتناقضاً بين بعضها الآخر، لكن في المحصّلة هي «مشاريع» لها خصوصياتها الإقليمية أو الدولية، ولا أجد أنّ أياًّ منها يراهن على حربٍ إقليمية أو على مدّ نيران الحرب في سوريا إلى جوارها، إلاّ «المشروع الإسرائيلي» الذي وجد مصلحةً كبيرة في تداعيات الأزمة السورية وانعكاساتها التقسيمية العربية، على مستوى الحكومات والشعوب.
إنّ «الرغبات» الإسرائيلية من التدخّل العسكري المباشر في الأزمة السورية، هي مزيدٌ من التفاعلات السلبية أمنياً وسياسياً وعدم التوصّل إلى أيِّ حلٍّ في القريب العاجل.
فمن مصلحة إسرائيل بقاء هذا الكابوس الجاثم فوق المشرق العربي، والمهدّد لوحدة الأوطان والشعوب، والمنذر بحروبٍ أهلية في عموم المنطقة، والمُهمّش للقضية الفلسطينية، والمؤثّر سلباً على حركات المقاومة في لبنان وفلسطين، مهما كانت خياراتها ومواقفها.
وتراهن حكومة نتانياهو على تصعيدٍ عسكري ضدّ إيران، ليكون ذلك مدخلاً لصراعات مذهبية محلية في المنطقة، لتغيير خرائطها ولإقامة دويلات طائفية وإثنية، ولتعزيز حاجة أميركا والغرب لإسرائيل، بحكم ما سينتج عن الحروب الإقليمية، «الدينية» و»الإثنية»، من تفاعلات لأمدٍ طويل، تثبّت مقولة: إسرائيل «دولة يهودية»!
طبعاً، لم تكن إسرائيل أبداً خلال كل الأحداث المهمة في المنطقة مجرّد «راغبٍ» و»متمنٍّ»، بل هي قوة مؤثّرة وفاعلة بشكلٍ مباشر، أو من خلال واجهات أو علاقات مع حكومات وجماعات دولية وإقليمية.
وهل يمكن أصلاً فصل الأزمة السورية الحالية عن الصراع العربي/ الإسرائيلي وعن مأزق التسوية على المسار الفلسطيني، حيث كانت دمشق في العقدين الماضيين داعمةً للقوى الفلسطينية الرافضة لنهج «أوسلو» وإفرازاته السياسية والأمنية؟
ثمّ كانت دمشق ولا تزال غير موقّعة على معاهداتٍ مع إسرائيل، كما جرى على الجبهات المصرية والأردنية والفلسطينية، فبقيت سوريا - ومعها لبنان - في حال الاستهداف من أجل فرض «التطبيع العربي» مع إسرائيل، بغضّ النظر عن مصير التسوية العادلة الشاملة لأساس الصراع العربي/ الصهيوني، أي القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني؟! وهل يمكن نسيان أنّ مئات الألوف من اللاجئين الفلسطينيين يقيمون في لبنان وسوريا، وأنّ ما يحدث، وما قد يحدث، في هذين البلدين سيؤثّر كثيراً على مصير ملفّ اللاجئين الفلسطينيين؟!
ثمّ هل من الممكن أن تغفر إسرائيل لمن اضّطرها للانسحاب العسكري المذلّ عام 2000 من لبنان، بعد احتلال أراضٍ فيه لأكثر من عقدين من الزمن، ثمّ لمن أفشل مغامرتها العسكرية وحربها المدمّرة على لبنان ومقاومته عام 2006؟! أليس حتمياً حدوث انعكاساتٍ خطيرة على لبنان «الجيش والمقاومة والشعب»، من جرّاء تداعيات الأزمة السورية واحتمالات نتائجها السياسية والأمنية؟! وهل حقّاً أنّ التغيير المنشود في سوريا هو في نظامها السياسي الداخلي فقط، أم أنّ الهدف الكبير الهام الذي يقف خلفه «حلف الناتو»، هو فصم العلاقة بين سوريا وإيران من جهة، وبين دمشق وموسكو من جهةٍ أخرى؟!
هذه أبعاد خارجية مهمّة للصراع المسلّح الدائر الآن في سوريا، فهو إضافةً لكونه صراعاً على السلطة ومستقبل النظام، فهو صراع إقليمي/ دولي على سوريا، وعلى دورها المستقبلي المنشود عند كلّ طرفٍ داعمٍ أو رافضٍ للنظام الحالي في دمشق.
هي مراهنة خطيرة جداً في المجتمعات العربية، أن يحدث التغيير السياسي المنشود في الحكومات بواسطة التحرّك الشعبي المسلّح، أو في المراهنة على تدخّل عسكري خارجي، لأنّ نتيجتهما حروب أهلية وتفتيت كيانات، لا إسقاط أنظمة فقط.
ألم تتعلّم الأمَّة العربية بعد، على مدار نصف قرنٍ من الزمن، من دروس تجارب لبنان في نهاية الخمسينات، ثمّ اليمن في مطلع الستينات، ثمّ لبنان من جديد في منتصف السبعينات، ثمّ الجزائر في مطلع التسعينات، ثمّ السودان والعراق والصومال وليبيا..؟!
كذلك هي مراهنة خاطئة أيضاً ومميتة أحياناً، عندما تُمارس الحكومات العنف الدموي القاسي ضدّ قطاعاتٍ من شعبها، حتّى لو كان وسط هذه القطاعات مندسّون وإرهابيون. فالعنف المسلّح الداخلي (مهما كان مصدره)، يُولّد مزيداً من الأزمات الأمنية والسياسية، ولم ينجح في أيِّ مكان في تحقيق مجتمعات موحّدة مستقرّة.. والخطأ من جهة لا يبرّر الخطأ من الجهة الأخرى.
إنّ مصير العلاقة الأميركية ـ الأوروبية مع روسيا والصين، يتوقّف الآن على كيفيّة التعامل مع الملف السوري.
وستمرّ أيام وأسابيع من المفاوضات الصعبة، ومن محاولات تحسين «الموقف التفاوضي» لكلّ طرفٍ إقليمي ودولي على أرض الصراع في سوريا، لكن في النتيجة إذا لم تُنفّذ قريباً «التسوية» التي ترمز لها «مبادرة جنيف» منذ عام، فإنّ سوريا والعالم كلّه على شفير هاوية حرب إقليمية كبرى، لن ترحم أيَّ طرفٍ معنيٍّ بها ولا يمكن التنبّؤ بنتائجها!