يولد الإنسان ونقطة جذبه الوحيدة هي أمّه أولاً، ثمّ أبوه، ثمّ أفراد العائلة والأقارب، ثم تتّسع دوائر الاهتمام عنده لتشمل الأصدقاء في الحي السكني أو الدراسة أو في العمل لاحقاً، وهي كلّها دوائر تحيط بالنقطة المركزية في الإنسان، وهي "ذاته" أو "الأنا"، والتي حولها تتمحور اهتمامات الفرد بنِسَبٍ مختلفة بين الناس.
ويجد الإنسان في مراحل معينة من حياته، أنّ هناك دوائر أوسع وأشمل من نطاق دوائره الشخصية والعائلية والمهنية، تحيط به، وقد تجذبه إليها وتفرض نفسها أحياناً في أولوياته، وهي مسائل لها علاقة بموضوع الانتماء إلى جماعة، أو بمعنى الالتزام بفكرة أو حركة أو مؤسسة تهتمّ بشؤون عامة، وترتبط بعقيدة سياسية أو دينية، أو بقضية وطنية أو اجتماعية عامة. هنا يحصل ما يمكن وصفه بمسألة "الالتزام"، أي التعهّد بخدمة قضية ما تتجاوز نطاق المصالح الشخصية.
لكن مفهوم "الالتزام" هو كمصطلح "المثقف"، يحتاج إلى مرادف له لكي تتّضح معانيه. فـ "المثقّف" هو وصف لحالة فرديّة، وليس تعبيراً عن جماعة مشتركة في الأهداف أو العمل. قد يكون "المثقّف" منتمياً لتيّار فكري أو سياسي يناقض من هو "مثقّف" في الموقع المضاد لهذا التيّار، وكلاهما يحملان صفة "المثقّف"، وهذا ينطبق تماماً على تعبير "الالتزام" أو "الملتزم".
فمن المواصفات العامة لـ "المثقّف الملتزم بقضايا وطنه أو أمّته"، أنّه يجمع بين هموم نفسه وهموم الناس من حوله، كما الجمع عنده بين العلم أو الكفاءة، وبين الوعي والمعرفة بمشاكل المجتمع حوله. أي هو طليعة قد تنتمي إلى أي فئة أو طبقة من المجتمع، لكن تحاول الارتقاء بالمجتمع ككل إلى وضع أفضل ممّا هو عليه. وهنا يحصل التلازم المهم بين مفاهيم "المثقف" و"الالتزام"، حيث يُكّمل أحدهما الآخر.
إذن، حينما يجري السؤال عن "ماهيّة دور المثقف العربي اليوم"، وعن مدى "التزامه" بقضايا وطنه وأمته، فإنّ الإجابة عنه تتطلّب وجود مثقّفين "ملتزمين"، يعتقدون أولاً بمفاهيم فكريّة مشتركة، ويشتركون في توصيف الواقع وأسباب مشاكله وتصورات حلوله، ثمَّ يسعون على ضوء ذلك لوضع برنامج عمل مشترك. عند ذلك، يمكن وصف هذه الفئة من "المثقّفين العرب" بأنها "ملتزمة" بالعمل من أجل مستقبل عربي أفضل. فالحديث بالمطلق عن "المثقّفين العرب"، والتساؤلات عن غياب دورهم، أمر غير واقعي وليس في محله.
لكن المشكلة في الواقع العربي الرّاهن، هي أنّ معظم "الجيل القديم" يحمل أفكاراً مليئة بالشوائب والحالات المرضيّة الذهنيّة، التي كانت في السابق مسؤولة عن تدهور أوضاع المجتمعات العربيّة، وتراكم التخلّف السياسي والاجتماعي والثقافي في مؤسّساتها المختلفة. وهذه المفاهيم المتداولة الآن في المجتمعات العربيّة، هي التي تصنع توجهات الجيل الجديد وتقود حركته.
لذلك نرى الشّباب العربي يتمزّق بين تطرّف في السلبيّة واللامبالاة، وتطرّف في أطر فئويّة بأشكال طائفيّة أو مذهبيّة، بعضها استباح العنف بأقصى معانيه وأشكاله. كما نجد الآن ضعفاً واضحاً في فئة "المثقّفين" الرافضين فكريّاً وعمليّاً للفصل بين أهداف تحتاجها الأمّة العربيّة كلّها، وبين قضايا التحرّر الوطني والعدل والحكم المدني السليم ورفض الاستبداد والفساد.
فالمفاهيم التي تحرّك الآن الجيل العربي الجديد، هي مفاهيم تضع اللوم على "الآخر" في "الوطن" أو في "الدين"، وتُحمّل هذا "الآخر" كل أسباب المشاكل والسلبيّات، ولا تحمل أي "أجندة عمل" سوى التغلب على هذا "الآخر". وهي بذلك مفاهيم تهدم ولا تبني، تفرّق ولا توحّد، وتجعل القريب غريباً والصّديق عدوّاً..
فجيل الشّباب العربي يعيش الآن حالة سوداويّة من الصّراعات العربيّة، ومن غياب الأطر العربية والوطنية الجامعة، وانعدام القيادة السّليمة للأمّة مجتمعة. جيل الشّباب المعاصر يفتقد حالياً ما كان في الأمّة من إيجابيّات، رغم سوء الممارسات أحياناً أو نواقص الفكر أحياناً أخرى. فالمشكلة اليوم هي في الفكر والأساليب معاً، في الحكومات والمعارضات.
في الواقع والبدائل المطروحة له!. ولعلّ هذا ما يفسّر كيف كانت حركة الشباب العربي زاهرة ونابضة في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، وكيف أنَّها ركدت وخبت في الربع الأخير منه، بعدما تحوّلت القضايا العربية المشتركة إلى "قضايا متصارعة"، وبعد أن اشتعلت أكثر من حرب أهلية عربية في أكثر من مكان، وبعد أن شاخت حركة المنظمات السياسية العربية، أو اتجهت في مسارات فئوية ومحلية.
إنّ القضايا التي تُحرّك الشباب العربي الآن، تتمحور حول "الإصلاحات السياسية والاقتصادية"، وقضايا الغلاء والفقر وفساد الحكم وانعدام فرص العمل أمام الجيل الجديد، وهي كلّها مسائل مرتبطة بالسياسة "الداخلية"، وهذا ما تدركه "قوى إقليمية ودولية"، ولا تمانع في تغييره. فما يهمّ واشنطن مثلاً، ليس من يحكم مصر الآن، بل "وفاء" حكمه الجديد بـ "الالتزامات" التي كانت عليها الحكومة السابقة، تجاه أميركا وتجاه إسرائيل أيضاً.
هنا مخاطر تغييب دور الفكر في عملية التغيير، ومساوئ عدم الوضوح في ماهيّة "الأفكار" أو طبيعة "القيادات" التي تقف خلف الحراك الشعبي، الذي بدأه الشباب العربي قبل عامين في تونس ومصر، وامتدّ إلى ربوع عربية أخرى. فهؤلاء الشباب الذين يضحّون بأنفسهم، لا يجوز أن يرضوا بأن تستغل انتفاضاتهم لخدمة أفكار ومشاريع وقيادات غير سليمة، تسرق تضحياتهم وإنجازاتهم الكبرى.
لذلك، هي فرصة هامّة، بل هي مسؤوليّة واجبة، للجيل العربي الجديد المعاصر الآن، أن يدرس ماضي أوطانه وأمته بموضوعيّة وتجرّد، وأن يستخلص الدروس والعبر لبناء مستقبل جديد أفضل له وللجيل القادم. لكن في كل عمليّة تغيير، هناك ركائز ثلاث متلازمة من المهمّ تحديدها، أولاً: المنطلق، الأسلوب، والغاية. فلا يمكن لأي غاية أو هدف أن يتحقّقا بمعزل عن هذا التّلازم بين الرّكائز الثلاث.
ولعلّ تحديد المنطلقات والغايات والأساليب، يكون المدخل السليم لدور أكثر إيجابيّة وفعاليّة للشباب العربي اليوم. فعسى أن نشهد قريباً ولادة جيل عربي جديد "مثقف وملتزم"، يحرص على هويّته الثقافيّة العربيّة ومضمونها الحضاري، وينطلق من أرضيّة عربيّة ووطنيّة مشتركة، تعتمد مفهوم المواطنة، وتستهدف الوصول - بأساليب ديمقراطيّة لا عنفيّة - إلى "اتّحاد عربي ديمقراطي" حرّ من التدخّل الأجنبي، وتتساوى فيه حقوق الأوطان وواجباتها، كما تتساوى في كلٍّ منها حقوق المواطنين.