قيل بعد حرب أكتوبر 1973، وعقب توقيع المعاهدة المصرية الإسرائيلية، إنّ "لا حربَ من دون مصر ولا سلامَ من دون سوريا". وقد ثبت بعد أربعة عقود مرّت على هذا القول، صحّة خلاصته، حيث لم تحدث منذ ذاك الوقت حرب نظامية عربية/ إسرائيلية، بمعنى حرب جيوش تقليدية على الجبهات، رغم حدوث حروب عديدة خلال هذه العقود، قامت بها إسرائيل ضدّ حركات المقاومة في لبنان وفلسطين.

 أيضاً، لم تحدث تسوية شاملة للصراع العربي/ الإسرائيلي، رغم المعاهدات التي حدثت بين إسرائيل ومصر والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية.

وقد مضى حتّى الآن أكثر من سنتين على التغيير الذي حدث في النظام المصري، لكن لم يحدث بعد أيُّ تغيير عملي في السياسة الخارجية التي اتبعتها مصر منذ توقيع اتفاقات "كامب ديفيد" عام 1978، وما زال الحكم المصري الجديد يؤكّد التزامه بهذه الاتفاقات وبالمعاهدة مع إسرائيل. أمّا في الحالة السورية.

فنجد أيضاً أنّ أكثر من سنتين من الصراع الدموي الجاري لم يُغّير من السياسة الخارجية للحكم الحالي في دمشق، ولا من تحالفاته الدولية والإقليمية، وهو أمر سعت واشنطن وتسعى لحدوثه منذ حرب 1973، حيث نجحت الولايات المتحدة آنذاك في إخراج مصر من التحالف مع روسيا الشيوعية، وضمّها إلى الفلك الأميركي في المنطقة، الذي كانت فيه حينها إيران - الشاه، وتركيا التي لا تزال أحد الأعضاء المهمّين في "حلف الناتو".

تداعيات سلبية خطيرة حدثت في المنطقة العربية وجوارها الإقليمي في العقود الماضية، منذ خروج مصر من الصراع العربي/ الإسرائيلي، كان منها ما هو بفعل إرادات وظروف محلية، أو بسبب تخطيط وعدوان خارجي، أو مزيج من الحالتين معاً. فمن الحرب العراقية الإيرانية عام 1980، إلى الغزو الإسرائيلي للبنان واحتلال بيروت في 1982، إلى غزو صدام حسين لدولة الكويت صيف 1990، إلى حرب الخليج الثانية 1991، إلى مؤتمر مدريد واتفاقية "أوسلو" بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية عام 1993، إلى هجمات سبتمبر في الولايات المتحدة عام 2001.

فغزو العراق 2003، إلى الحروب الإسرائيلية على لبنان والأراضي الفلسطينية المحتلة في أكثر من محطة زمنية خلال العقد الماضي، إلى ما تشهده المنطقة الآن من صراعات وأزمات أمنية وسياسية، تُنذر بحروب أهلية وبتغييرات في كيانات بعض الدول وحدودها، وليس فقط أنظمتها الحاكمة.

وهذه التداعيات السلبية في التاريخ العربي المعاصر، لم تكن منفصلة عن مجرى الصراع العربي/ الصهيوني الممتد نحو مئة عام، ولا هي أيضاً مجرّد تفاعلات داخلية، "الخارج" منها براء.

ويُرجِع بعض العرب سلبيات أوضاعهم الراهنة إلى هزيمة يونيو/ حزيران عام 1967، رغم مرور ما يُقارب نصف قرن من الزمن على حدوثها، بينما الواقع العربي الراهن هو نتاج تدهور متسلسل تعيشه المنطقة العربية منذ اختار الرئيس المصري الراحل أنور السادات السير في المشروع الأميركي ـ الإسرائيلي، الذي وضعه هنري كيسنغر بعد حرب أكتوبر 1973، في ظلّ إدارة كسينغر للسياسة الأميركية الخارجية.

إنّ الحقبة السياسية بعد حرب عام 1973 (وليست النتائج السياسية لحرب 1967)، كانت بالنسبة للعرب هي الأخطر، لأنها أوجدت بذوراً للعديد من الأزمات القائمة الآن. فقد كانت حرب أكتوبر 73 درساً لأميركا وإسرائيل، في أنّ الهزيمة العسكرية الكبرى لمصر عبد الناصر عام 67، والقوة الإسرائيلية الهائلة والمتفوقة في المجالات كلّها، والعلاقة الخاصة مع بعض الحكومات الغربية..

هي عناصر لم تكن مانعة لحدوث "نصر أكتوبر"، ولا لعدم استخدام النفط كسلاح في الصراع مع إسرائيل ومن يساندها، ما دفع أميركا وبعض الدول الأوروبية إلى إعادة حساباتها في المنطقة، وإلى تأسيس نواة ما يُعرف اليوم باسم "مجموعة الدول الثماني"، والتي كان تأسيسها (عام 1974 من خمس دول)، مرتبطاً بقرار حظر تصدير النفط إلى الغرب خلال عام 1973. ومن حال النتائج الإيجابية لحرب 1973، بما فيها القيمة العسكرية لعبور قناة السويس، وظهور القوة المالية والاقتصادية والسياسية للعرب آنذاك، ثمّ القرار الذي أعلنته الأمم المتحدة بمساواة الصهيونية بالعنصرية..

إذا بالمنطقة العربية تنتقل من هذه الإيجابيات الدولية، ومن حال التضامن العربي الفعّال، إلى إشعال الحروب العربية/ العربية، والحرب العراقية/ الإيرانية، وتصاعد العدوان الإسرائيلي على لبنان والأراضي الفلسطينية المحتلة. فكانت نتائج تلك المرحلة، ليست في تعطيل دور مصر العربي فقط، بل بفتح الأبواب العربية كلّها لحروب داخلية وحدودية، واختلال الجسم العربي بأسره.

ولولا هذه السياسات الخاطئة في "السّلم والحرب"، لما حصل ما حصل من تمزّق عربي خطير، وهدر وتدمير لإمكانات عربية كثيرة، وإعادة فتح أبواب المنطقة للتدخل والوجود العسكري الأجنبي.. أمّا هزيمة 1967، فقد كانت سبباً مهماً لإعادة النظر في السياسة العربية لمصر الناصرية، حيث وضع عبد الناصر حينها الأسس المتينة للتضامن العربي من أجل المعركة مع العدوّ الإسرائيلي، وتجلّى ذلك في قمّة الخرطوم عام 1967.

وما تلاها من أولويّة أعطاها ناصر لاستراتيجية إزالة آثار عدوان 1967، وإسقاط كل القضايا الأخرى الفرعيّة، بما فيها سحب القوات المصرية من اليمن، والتصالح مع الدول العربية كلّها، والسعي لتوظيف كلّ طاقات الأمّة من أجل تحرير الأراضي المحتلة، وإعادة بناء القوات المسلحة المصرية، التي قامت فعلاً بحرب الاستنزاف أولاً، ثمّ بحرب عبور قناة السويس.

لكن هذه الدروس الهامة لم تعش طويلاً بعد وفاة ناصر، وبعد حرب 1973، إذ عانت الأمّة العربية، ولا تزال تعاني، من انعدام التضامن العربي، ومن انقسامات وصراعات بين حكومات وشعوب، ومن هشاشة البناء الداخلي، ما سهّل الهيمنة الخارجية على بعض أوطانها، ودفع بالوضع العربي كلّه نحو مزيد من التأزّم والتخلّف والسيطرة الأجنبية.

لكنْ، مهما كانت تداعيات الصراع مع إسرائيل الآن سيّئة وبالغة التعقيد، ومهما كانت سلبيات الواقع العربي الراهن وحال الانقسام والعجز والضعف، فإنّ الإرادة الشعبية، في تاريخ أكثر من بلد عربيٍّ، استطاعت أن تكسر الأغلال، وأن تثور ضدّ الظلم والاحتلال، وهي قادرة على أن تصحّح هذا الواقع عاجلاً أم آجلاً، طالما حافظت على وحدة الشعب، وأدركت بحقّ، من هو الصديق ومن هو العدوّ.