ما زال العديد من الأوساط الإعلامية والسياسية الغربية ينزعج من كل ما يحدث في أقطار مختلفة من العالم، خاصة إذا تعلق الأمر بالديانات والمعتقدات وأنماط تسيير شؤون العباد والبلاد. ففرنسا على سبيل المثال تطلب من تركيا الاعتذار عن مجازرها ضد الأرمن، لكنها وهي البلد المستعمر السابق، تمتنع عن تقديم الاعتذار عن جرائمها في مستعمراتها السابقة، وخاصة مجازرها وجرائمها في الجزائر.

دول غربية كثيرة جعلت من الإسلام والنظام السياسي الإسلامي خطراً عليها وعلى البشرية جمعاء، وجعلت الديانة الإسلامية وكل ما يتصل بها شماعة لإخفاقاتها وعنواناً للتخلف والعنصرية وإقصاء الآخر. هذه الدول، مع الأسف الشديد، وهي التي تتغنى بالديمقراطية والحرية واحترام المعتقد والدين، سخرت الآلة الإعلامية لصناعة الحقد والكراهية والتضليل والتشويه، بدلاً من نشر ثقافة التفاهم والحوار بين الثقافات والحضارات والديانات.

قبل مدة أصدرت مجلة "شارلي إيبدو" الفرنسية، عدداً خاصاً عنونته "شريعة إيبدو"، تسخر فيه من الإسلام والمسلمين، وأوكلت رئاسة تحرير العدد حسب مسؤوليها، إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.

ما حدث عن الصحيفة الفرنسية ومن قبلها الصحيفة الدنماركية، وغيرها كثير في ما يتعلق بالتجاوزات ضد الإسلام والمسلمين والعرب، يتنافى جملة وتفصيلاً مع العمل الإعلامي الحرفي المسؤول والملتزم، وقدسية الرموز الدينية مهما كانت وأينما كانت. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام هو: لصالح من مثل هذه الاستفزازات والتصرفات غير المسؤولة؟

وما هي الأهداف من ورائها؟ وماذا ستضيفه لخدمة الإنسانية ومبادئها وقيمها؟ مثل هذه التصرفات تعمق الفوارق والتضليل والتشويه وسوء التفاهم وانعدام الحوار، وانتشار الصور النمطية التي تفرز ثقافة الحقد والكراهية والبغضاء والعنصرية والجهل، بدلاً من نشر ثقافة التفاهم والتسامح والتقريب بين الثقافات والحضارات. قيل كلام كثير عن الحوار بين الحضارات والديانات واحترام الآخرين ومعتقداتهم ودياناتهم،.

وقيل الكثير كذلك عن أن العولمة ستؤدي إلى تقارب الشعوب ودمقرطة الأنظمة، والتفاهم والتسامح والتعاون، وأن الإعلام يلعب دوراًَ استراتيجياً في نشر ثقافة التسامح والسلم واحترام الآخر، ومحاربة العنصرية والاستغلال والاستعمار والإرهاب واحتقار الآخر والاستهزاء به.

إن النيل والتهكم والسخرية من ديانات وأنبياء ورسل ومعتقدات وثقافات الآخرين، يتناقض جملة وتفصيلاً مع الرسالة النبيلة للصحافة، ومع حرية التعبير وحرية الصحافة، حيث إنه لا توجد ديمقراطية أو نظام سياسي يسمح ويبيح التحريض على كراهية أو شتم الآخرين والاستهزاء بقيمهم ورموزهم المقدسة. والمؤسف في حادثة "شارلي إيبدو" والرسوم الكاريكاتورية من قبلها.

وغيرها كثير من مظاهر الحقد والكراهية، هو أن السلطات الدنماركية والفرنسية والمجتمع الرسمي والمدني في البلدين، لم تحرك ساكناً أمام ما حدث وكأن شيئاً لم يحدث. وهذا يعني أن الأمر عادي، وأن الإساءة للآخرين ولمقدساتهم ودياناتهم لا تعني شيئاً بالنسبة لهم.

ما نجم عن صحف فرنسا والدنمارك والنرويج ومن دول أخرى، يخالف الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومواثيق وأخلاقيات الممارسة الإعلامية في معظم دول العالم، كما يتنافى مع مبدأ حرية الصحافة الذي يقوم على الالتزام باحترام الآخر واحترام معتقداته ودياناته.

كما تخالف تلك التصرفات مقررات الأمم المتحدة في حوار الأديان والحضارات. فهي تصرفات تنم عن جهل وحقد وكراهية، وعن عدم مقدرة على التعايش مع الآخر، بل التفكير في تدميره والقضاء عليه والتخلص منه، كما أنها تعبر عن محاولة لتبرير الفشل باستخدام الآخر كسبب له.

الأخطر من ذلك هو نتائج استطلاعات الرأي العام، التي أظهرت ما يدور في أذهان الناس العاديين، حيث أكدت عدم الاعتراف بالخطأ وعدم احترام معتقدات وديانات الآخرين، وهذا أمر خطير لأنه يشير إلى ضعف درجة التسامح والتفاهم والحوار بين الشعوب. وهنا نلاحظ الدور العكسي والسلبي والخطير الذي تلعبه وسائل الإعلام في عصر العولمة والثورة المعلوماتية والمجتمع الرقمي، وعصر القرية العالمية.

يكيل الغرب بمكيالين، فالإساءة إلى رموزه أو قيمه ومعتقداته تعتبر خروجاً عن الأصول وعن الأخلاقيات والمهنية والحرفية، أما المساس بمعتقدات وقيم الآخر فهي من المباحات. فالذي يجرؤ على الكلام في موضوع المحرقة الهولوكوست - يحاكم قضائياً وهذا لا يعتبر مساساً بحرية الصحافة، أما الذي يسيء إلى الرسل والأنبياء والأديان والمعتقدات فهذا شيء طبيعي وممارسة لحرية التعبير والصحافة!

الإشكال المطروح هنا هو النية السيئة والخبيثة للمساس بالآخر، والسخرية والتهكم والاستهزاء والإساءة. والسؤال الذي يطرح نفسه: هو ما الفائدة من كل هذا؟ وما هو الدور الحقيقي لوسائل الإعلام؟ المؤسف أن الكثير من وسائل الإعلام في عصرنا الحالي، يقوم بممارسات خطيرة تتسبب في تلويث عقول البشر والتضليل والتشويه والفبركة وصناعة الحقد والكراهية والوهم، أكثر من التنوير والتعليم والتثقيف.