ربيع عربي وتغيرات جذرية وحراك سياسي واجتماعي وثورات وثورات مضادة في دول عربية عديدة، تدفع المواطن العربي إلى التساؤل: ما هو موقع المثقف العربي من كل هذه الأحداث؟ أين هو؟ ما هو دوره في المجتمع؟ ما هو موقفه مما يحدث من حوله؟ ما هي إسهاماته في كل ما يحدث؟ هل كان من المفترض أن يكون هو المحرك الأساسي لهذه التحولات والتغييرات؛ أي أن يكون هو الفاعل وليس المتفرج؟ أين هو المثقف العضوي؟ أسئلة وتساؤلات عديدة حول علاقة المثقف بمحيطه ومجتمعه، وبالسلطة وبصانع القرار.

خلال السنوات الماضية لاحظنا من المثقفين من انحاز وراء الظلم والاستبداد، ومن أصبح ينظر للأنظمة الفاسدة، ومن اختفى تماما. كما لاحظنا قلة قليلة ناضلت بالقلم، من أجل مساندة الفقراء والمساكين والمهمشين.

إشكالية أزمة المثقف تبقى من الإشكاليات الهامة والرئيسية، المطروحة على الساحة الفكرية والثقافية والسياسية في الوطن العربي. هل من مكانة للمثقف في مجتمع يفتقد مستلزمات التفكير والتعبير عن الرأي والحوار والمناقشة والحريات الفردية وحرية الصحافة، وغيرها من مستلزمات وضرورات وشروط الإنتاج الفكري الناضج الذي يستطيع أن ينّظر ويؤّسس للتطورات والتحولات الهامة والمصيرية في المجتمع؟

التجارب التاريخية في الوطن العربي، تشير إلى مرض الاغتراب والتهميش والإقصاء الذي عانى وما زال يعاني منه المثقف العربي عبر الأجيال والعصور. ففقدان الحرية والديمقراطية وانتهاك حقوق الإنسان، كلها عوامل أدّت إلى اغتراب المثقف العربي وتهميشه، سواء داخل وطنه حيث أصبح من الغرباء فيه لا يتعرف عليه .

ولا يتفاعل معه كما ينبغي، لأنه إذا فعل ذلك سيكون مصيره مجهولا، أو أننا نجده يلجأ إلى الهجرة طلبا للحرية ولمتنفس يجد فيه مجالا للتفكير والإبداع. لكن تبقى الغربة والعيش خارج المحيط الطبيعي للمثقف، بمثابة موت بطيء. والمثقف مهما كانت الصعاب والمشاق والمشاكل والعراقيل، يبقى دائما مسؤولا إزاء مجتمعه لتحقيق الأهداف النبيلة التي يناضل من أجلها، وهي العدالة والمساواة والحرية والقيم الإنسانية النبيلة، ومن أهمها توفير الظروف المناسبة للتعلم والبحث العلمي والإبداع.

إشكال آخر مهم جدا ضمن سياق ظاهرة اغتراب المثقف، يتمثل في الرقابة الذاتية وممارسة الانسلاخ الإرادي من المجتمع والعيش في ضفافه وقشوره. وهذا موت بطيء آخر يعاني منه المثقف العربي، وهو نوع من الانتحار حيث لا يجرؤ على التعبير عما في داخله، ولا يستطيع أن يضع أفكاره في خدمة المجتمع.

فالإشكال هنا يتمثل في التقرب من السلطة والانسلاخ عن الجماهير، أو التقرب من الواقع ومن الجماهير وهذا يعني غضب السلطة على المثقف وإسكاته أو تهميشه بطرق مختلفة. وفي كل هذا نجد أن المجتمع في نهاية المطاف هو الخاسر الكبير.

وآليات الاتصال والتواصل داخل المجتمع مهمة جدا، فكلما كانت مرنة وسلسة ويسيرة كلما نجم عنها التفاهم والوئام والوصول إلى الأفكار النيّرة. وعلى العكس من ذلك كلما تعقدت وأصبحت عسيرة ومفتعلة ومتملقة، كلما زادت مشاكل المجتمع وتفاقمت وزاد سوء الفهم وانعدم النقاش والحوار.

وهذا ما يقودنا للكلام عن الثقافة التي أفرزتها القوى المختلفة في المجتمع، فهذه الثقافة هي ثقافة التبرير والتملق والتخدير والتزييف، وكأن الهدف في نهاية المطاف هو تجهيل الرأي العام وتنويمه، بدلا من توعيته والرقي به إلى مستوى الفعل والمشاركة في صناعة القرار، وفي تقرير مصيره ومكانته بين الشعوب والأمم.

ما هو دور المثقف في المجتمع؟ وما هي علاقته بالسلطة؟ وخاصة في الأزمات المتعاقبة والعويصة، التي تعيشها الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج.

في البداية نتساءل عن مكانة المثقف في المجتمع وعن وضعيته وعن الدور الموّكل إليه، ولماذا نتكلم دائما عن أزمة المثقف؟ لماذا مثلا لا نتكلم عن المثقف العضوي في المجتمع، المثقف الحقيقي الذي ينتقد ويقف عند هموم وشجون المجتمع، ويعمل على تغيير الواقع وليس تكريسه، المثقف الذي يساهم في صناعة الفكر والرأي العام، ويحضّر مجتمعه شعبا وقيادة لمواكبة التطور الإنساني والحضاري، والتفاعل الإيجابي مع ما يحدث في العالم.

وهنا تجب الإشارة إلى ضرورة النظر للمثقف كجزء فرعي من نظام كلي وهو المجتمع، وهنا نتساءل؛ هل المثقف يساهم في إنتاج النسيج الفكري والثقافي والاجتماعي للمجتمع الذي يعيش فيه؟ أم أنه جزء من المجتمع؟ فالمثقف عادة يكون مرتبطا بواقعه وبمجتمعه، يتفاعل معه، يؤثر ويتأثر به. لكن الإشكالية هنا تتمثل في ماهية وطبيعة العلاقات التي يقيمها المثقف مع الجهات المختلفة الفاعلة في المجتمع.

وهنا نقف عند علاقة المثقف بالسلطة، هل هي علاقة خضوع وخنوع واستسلام وتملق؟ أم أنها علاقة مبنية على المهنية والاحترافية والصراحة والشفافية والديمقراطية والاحترام والنقد والنقد الذاتي، من أجل مصلحة البلاد والمجتمع ومكوناته المختلفة؟

ما هي، إذن، علاقة المثقف العربي ببيئته؟ أي علاقة المثقف بالسلطة، وعلاقته بالجمهور وبالقضايا اليومية للمجتمع، وبالقضايا الطارئة والمشاكل اليومية للمواطن؟

ففيما يتعلق بعلاقة المثقف بالسلطة بقيت الأمور على حالها، رغم المطالبة بتجسير الفجوة بين الطرفين، والمحاولات القليلة التي سُجلت كانت مع الأسف الشديد من قبل المثقفين إزاء السلطة ومن جهة واحدة، الأمر الذي يدعو إلى التشاؤم والتحسر على واقع سلبي للغاية، في عصر العولمة والثورة المعلوماتية. فالمثقف في هذه الظروف يبقى أسير نفسه، يعمل ليل نهار من أجل إرضاء السلطة والتنظير لها وتبرير كافة أعمالها، سواء كانت صائبة أم خاطئة.

هذه النوعية من المثقفين تسمى بأشباه المثقفين (pseudo-intellectuals)، وإذا انتشرت في المجتمع فإنها تنشر ثقافة الاستسلام والرضوخ، وثقافة التملق والقضاء على بذور الديمقراطية من أساسها، لأن الديمقراطية تقوم على المعارضة والاختلاف في الرأي، ولا معارضة ولا رأي بدون فكر، ولا استقلالية في الفكر بدون حرية وبدون مبادئ. فلا مستقبل لأمة بدون مفكرين ومثقفين ينتقدون الباطل والفساد، ويدافعون عن الحق ويعملون ليل نهار من أجل إنصاف المحرومين والمهمشين، بعيدا عن شهوات ونزوات السلطة.