بعد مرور أكثر من سنتين على الثورات العربية نلاحظ فوضى في الفضاء الإعلامي في دول الربيع العربي وأن الوضع لم يتحسن كما كان يتمناه الكثيرون. فنلاحظ الانفلات الأخلاقي في الممارسة الإعلامية.
حيث النيل من الآخر بأي طريقة ووسيلة انطلاقاً من مبدأ الغاية تبرر الوسيلة. فانتشرت ظاهرة القذف والتجريح والتشهير واختراق الحياة الخاصة للشخصيات العامة والوصول إلى نيل من شخصية الرئيس بحق أو من دون حق.
وهكذا انقسمت المنظومة الإعلامية إلى قسمين، القسم الأول يؤيد الجماعة الجديدة التي جاءت إلى سدة الحكم بحق أو بغير حق والفوج الثاني شغله الشاغل هو النيل من الحكومة الجديدة بكل الطرق والوسائل وبأخلاق ومن دون أخلاق وبمعايير مهنية ومن دونها.
فأصبحنا نلاحظ تجاوزات بالجملة في حق حرية الكلمة والموضوعية والنزاهة والحياد والحرفية والمهنية. فأصبحت المؤسسات الإعلامية تركز على ما يخدم أجندتها وتتجاهل الرأي الآخر وكل ما يناقض أطروحاتها وكأن الأمر يتعلق بقضايا مختلفة وليس نفس القضية، حيث إننا نلاحظ تقارير وأخباراً متضاربة ومتناقضة حول نفس الموضوع.
قبل الثورات العربية كانت المنظومة الإعلامية في معظم الدول العربية تعاني من سيطرة السلطة عليها فكانت ضحية قيود وضغوط تنظيمية وقانونية وتشريعية. فالإعلام سواء كان حكومياً أو رسمياً أو خاصاً كان يدور في فلك الحاكم وحاشيته، وهذا ما يعني فقدان المصداقية وغياب صحافة الاستقصاء والابتعاد عن الجماهير ومطالبها ومشاكلها.
فالإعلام الليبي في عهد القذافي على سبيل المثال كان يقدم العقيد على أنه أحسن قائد في العالم وأنه يتحلى بالحكمة والذكاء والبصيرة ما جعل من ليبيا جماهيرية عظمى وبلداً عظيماً وكبيراً.
كما كان يقدم هذا الإعلام الشعب الليبي على أنه شعب متمسك بقائد الثورة وراضٍ عن مستوى معيشته وتطور وازدهار بلاده. كان الإعلام الليبي يقدم ليبيا على أنها آية في الكمال والتميز والقوة والعظمة وأن الخطط التنموية وسياسة الدولة الداخلية والخارجية متميزة وناجحة.
وأن القذافي هو محبوب الجماهير العربية قبل الليبية. كما حققت ليبيا حسب إعلام القذافي إنجازات جبارة في التنمية والتطور والازدهار بالمقارنة مع ما كانت عليه في عهد الملكية ومقارنة بدول أخرى في العالم والقارة السمراء والوطن العربي. استمر الوهم لمدة أربعين سنة واستمر التضليل والتلاعب والدعاية والكذب إلى أن جاءت ساعة الحقيقة وجاء زحف الجماهير وجاءت الثورة الشعبية لتنجلي الحقيقة وينكشف المستور وتظهر الأمور على حقيقتها.
واقع المنظومة الإعلامية في تونس ومصر واليمن لم يكن أحسن حالاً من نظيرتها في ليبيا، وهذا ما حرم المجتمع في هذه الدول من مؤسسة استراتيجية كان بإمكانها أن تراقب السلطة وتحارب الفساد وتكشف العيوب والأخطاء والتجاوزات.
على عكس كل هذا كانت وسائل الإعلام في هذه الدول تتفنن في المدح والتسبيح والتهليل وفي تكريس الفساد وإهدار المال العام. فالعلاقة بين السلطة ووسائل الإعلام لم تكن سليمة وصحية كما أنها لم تكن واقعية وطبيعية مع الشعب. وهذا يعتبر خللاً كبيراً في أبجديات الديمقراطية والتنمية المستدامة.
بظهور الثورات العربية ورياح التغيير وهروب الحكام الفاسدين تفاءل الجميع خيراً بأن الربيع السياسي سيؤدي إلى ظهور ربيع إعلامي وسيوفر المناخ الأمثل لمنظومة إعلامية تختلف أجندتها عن أجندة المنظومة الإعلامية في عهد الرقابة وغياب حرية التعبير وحرية الصحافة والاستبداد والفساد.
فالمشكل مع المجموعة الأولى هو أن رسالة الإعلام هي أكثر بكثير من الوقوف إلى جانب السلطة الحاكمة والدفاع عنها وتمجيدها وإنما الرسالة الحقيقية للمهنة الشريفة هي الوقوف على الأخطاء والتجاوزات ومراقبة السلطات الثلاث في أداء مسؤولياتها وواجباتها. فإذا عدنا إلى ثقافة المدح والتسبيح وتمجيد السلطة فهذا يعني أننا رجعنا إلى عهد القذافي.
ومبارك وزين العابدين بن علي وعلي عبدالله صالح، بمعنى آخر أن لا تغيير ولا صحافة استقصاء ولا رقابة ولا صحافة تخدم البلاد والعباد. فالثورات العربية جاءت لتغير وتبدل في آليات الحكم وعلاقة الحاكم بالمحكوم وعلاقة السلطة بوسائل الإعلام
فالحكومات الحالية في دول الربيع العربي بحاجة إلى إعلام قوي وفعال يوجهها في الاتجاه السليم ويكون حلقة وصل بينها وبين شعوبها. الحكومات الحالية بحاجة إلى منظومة إعلامية تراقبها وتكشف عن أخطائها وتساعدها على إنجاز مهامها والتصدي للانتهازيين والفاسدين وكل من يحاول العبث بالمال العام ومصلحة الوطن.
أما المجموعة الثانية فهي كذلك خرجت على السكة وخرجت على رسالتها لتدخل في ثقافة الإطاحة بالسلطة بكل الوسائل والطرق. فهي لا ترى في المجموعة الحاكمة إلا الأخطاء والسلبيات. هذه المجموعة تعمل على الإطاحة بالنظام بدلاً من البناء والتشييد وتأدية الرسالة الإعلامية بكل مهنية ومسؤولية والتزام نحو الجمهور والمصلحة العامة.