ردّد لي أحد الأصدقاء قولاً سمعه من شخصٍ آخر بأنّ الصراع الحقيقي الداخلي الدائر حالياً في المجتمعات العربية والإسلامية هو بين "جماعات التكفير وجماعات التفكير"، وقد استحسنت هذا القول لأنه يُعبّر فعلاً عن واقع حال العرب والمسلمين اليوم. وذكّرني هذا القول بحديث الكاتب الكبير المرحوم الطيب صالح في ندوة له بمركز الحوار العربي بواشنطن في منتصف التسعينات، والذي استخدم فيه مثالاً عن الشعوب الحيَّة المتقدّمة بأنّها تشبه في مسارها نحو المستقبل سائق السيارة الذي عليه النظر دائماً إلى الأمام وليس التطلّع المستمر إلى المرآة المخصّصة للنظر إلى ما بالخلف.
لماذا هذا الانحباس لدى المسلمين في "كيفيّة العبادات" بدلاً من التركيز على "ماهيّة وكيفيّة المعاملات" بين الناس أجمعين؟ ألا تؤكّد الأحاديث النبوية الشريفة على أهمّية الأخلاق في دين المسلم حتى جرى القول إنّ "الدين المعاملة"؟.
ولِمَ لا يتمّ استخلاص مجموعة من القواعد والقيم والمفاهيم لوضعها بشكل إعلان مبادئ إسلامية (مثل إعلان مبادئ حقوق الإنسان) لتشمل مواضيع: الشورى والديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، ومواصفات الدعاة والعمل الصالح، وضرورة نبذ أسلوب العنف وتحريم قتل الأبرياء، وواجبات أولي الأمر والحكّام وما يحفظ كرامة الإنسان وحقوقه؟ ففي ذلك مرجعيةٌ مهمة لمحاسبة الحاكم والمحكوم معاً، ولبناء أي وطن وكل مواطن، وفي ذلك أيضاً دعوةٌ لكلّ الدول الإسلامية للاستناد إلى هذه المرجعية من القيم والمبادئ، بدل التوقّف حصراً على موضوع اجتهادات الفقهاء السابقين في التفسير والشريعة.
أيضاً، لِمَ لا يتحقّق الاتفاق على أنّ الدعوة للفكر الإسلامي في المنطقة العربية هي في أحد جوانبها دعوةٌ لإعادة تصحيح خطيئة تاريخية استهدفت عزل هذه المنطقة عن هويّتها الحضارية وعن دورها العالمي.. وعلى أنّ الدعوة للوطنية وللفكر القومي العربي هي أصلاً لتصحيح خطايا جغرافية استهدفت وتستهدف تجزئة المنطقة وإزالة هويّتها الثقافية الواحدة.
في الحالتين، لا تعارض على الإطلاق بين العمل من أجل خدمة الدين والعمل من أجل الأوطان وهُويتها العربية، وأنّ كلاً منهما يخدم الآخر ويساهم في رسالته. وأيضاً بأن لا تعارض بين مشروع سياسي قومي يستهدف تكامل المنطقة العربية لصالح كلّ أبنائها، وبين أي مشروع سياسي قائم على القيم الدينية يستهدف صالح الإنسان وتقدّمه.
فهل، على سبيل المثال، يجد المسلمون في أوروبا تناقضاً بين مضمون دينهم وبين الوحدة التي حدثت بين الدول الأوروبية؟ وهل يتضرّر المسلمون في أميركا من الاتحاد بين ولاياتها؟
فكيف يمكن أن تُصان وحدة الثقافة ووحدة الحضارة إذا لم تُصَن وحدة الأرض ووحدة الشعب؟ والعكس صحيح أيضاً.
ثمّ، أيّهما يجب تغييره أو إصلاحه أولاً: الحكم أم المجتمع؟ وهل إصلاح نظام الحكم سيؤدّي حتماً إلى إصلاح المجتمع؟ العلاقة بين المسألتين هي طبعاً جدلية، لكن من المحتّم أنّ إصلاح المجتمع أولاً هو السبيل إلى إصلاح الدولة ونظام الحكم.
هنا أهمّية دور "الآخر" في المجتمع العربي التعدّدي، وهذا "الآخر" قد يكون على أساسٍ مذهبي أو طائفي أو إثني أو حتّى عقائدي وحزبي. لكن المعيار ليس بإقرار حقّ وجود "الآخر" فقط، بل بحقّه في دوره كشريك طبيعي في المجتمع وفي المواطنة. إنّ الأمّة العربية تقوم ثقافتها الدينية وحضارتها على الحوار مع الآخر بينما لا يفعل ذلك ناسُها.
وقد ترسّخت في العقود الثلاثة الماضية جملة شعارات ومفاهيم ومعتقدات تقوم على مصطلحات "الإسلام هو الحل" و"حقوق الطائفة أو المذهب" لتشكّل فيما بينها صورة حال المنطقة العربية بعد ضمور "الهويّة العربية" واستبدالها بمصطلحاتٍ إقليمية ودينية وطائفية.
وها هي الآن بلاد العرب تشهد حركات تغيير وحراكاً شعبياً واسعاً من أجل الديمقراطية، لكن بمعزل عن القضايا الأخرى المرتبطة بالسياسات الخارجية وبمسائل "الهويّة" للأوطان وللنظم السياسية المنشودة كبديلٍ لأنظمة الاستبداد والفساد.
وها هي ثورات حدثت، تترافق مع تساؤلاتٍ عديدة عن طبيعة الحكم الجديد في بلدان كلٍّ منها، مع تزايد المخاوف من هيمنة الاتجاهات السياسية الدينية الفئوية على مقدّرات الحكم.
وهكذا تمتزج الآن على الأرض العربية مشاريع تدويل أزمات داخلية عربية مع مخاطر تقسيم مجتمعات عربية، وسط رياحٍ عاصفة تهبّ من الشرق الإقليمي ومن الغرب الدولي، ومن قلب هذه الأمّة، حيث مقرّ المشروع الصهيوني التقسيمي.
وللأسف، يعيش العرب اليوم عصراً أراد الفاعلون فيه، محلياً وخارجياً، إقناع أبناء وبنات البلاد العربية أنّ مستقبلهم هو في ضمان "حقوقهم" الطائفية والمذهبية، وفي الولاء لهذا المرجع الديني أو ذاك، بينما خاتمة هذه المسيرة الانقسامية هي تفتيت الأوطان والشعوب وجعلها ساحة حروب لقوى دولية وإقليمية تتصارع الآن وتتنافس على كيفيّة التحكّم بهذه الأرض العربية وبثرواتها.
هناك حتماً أكثريّة عربية لا تؤيّد هذا الطرح "الجاهلي" التفتيتي ولا تريد الوصول إلى نتائجه الوخيمة، لكنّها أكثرية "صامتة" إلى حدٍّ ما، ومن يتكلّم منها بجرأة يفتقد المنابر الإعلامية والإمكانات المادية، فيبقى صوته خافتاً أو يتوه هذا الصوت في ضجيج منابر المتطرّفين والطائفيين والمذهبيين الذين هم الآن أكثر "حظّاً" في وسائل الوصول إلى الناس.
إنّ الخطر الأكبر الذي يواجه العرب حالياً هو انشغال شعوب المنطقة بصراعاتها الداخلية. فمن رحْم هذه الأزمات تتوالد مخاطر سياسية وأمنية عديدة أبرزها الآن مخاطر الصراعات الطائفية والمذهبية والإثنية، إضافةً إلى الصراعات السياسية والتنافس على السلطة. ذلك كلّه يحدث في ظلِّ المشروع الإسرائيلي الهادف إلى تقسيم البلاد العربية، بحيث تكون الدولة اليهودية في المنطقة هي الأقوى وهي المهيمنة على الدويلات المتصارعة.
وعلى جوار حدود الأرض العربية، تنمو مشاريع إقليمية تستفيد من غياب المرجعية العربية ذات المشروع الضامن لمصالح الأمّة العربية. فلو لم يكن حال الأمّة العربية بهذا المستوى من الوهن والانقسام، لما كان ممكناً أصلاً استباحة بلاد العرب من الجهات الأربع كلّها. ويبقى أنّ الأمل الكبير هو بعودة دور العقل ومرجعيته في قضايا الدين وفهمه ومعاملاته، وفي دور الشعوب بنبذ التطرّف والمتطرفين، وفي عودة مصر إلى دورها الطليعي بأمّتها العربية المستباحة حالياً.