يشهد العالم مئات بل آلاف الأحداث والوقائع يومياً، والسؤال الذي يطرح نفسه هو ماذا يُنتقى وماذا يُلغى من الأحداث وعلى أي أساس تتم عملية الانتقاء والاختيار لعدد محدد من الوقائع وإقصاء الغالبية العظمى من الأحداث؟ بعبارة أخرى ما هي معايير القيمة الخبرية في الحادثة وكيف نحكم على أن واقعة ما تتوفر فيها شروط الخبر أم لا؟ إلى أي مدى تعكس عملية الانتقاء العالم الحقيقي، ولفهم آليات الصناعة الإعلامية لا بد من الإشارة إلى الملاحظات التالية:
تختلف القيم الخبرية من ثقافة إلى أخرى والصناعة الإعلامية تخضع لمعايير واتفاقيات conventions محددة، فالخبر غير موضوعي ويخضع لمعايير العرض والطلب والسوق والقوى السياسية والاقتصادية في المجتمع.
إن مقولات خدمة المصلحة العامة والخدمة العمومية واهية، حيث إن الأهداف الاقتصادية والأيديولوجية للمؤسسة الإعلامية تحدد إلى حد كبير أداءها في المجتمع وعملية الانتقاء والإقصاء وتحديد ما يصلح للنشر وما يرمى في سلة المهملات.
إن الموضوعية في التغطية الإعلامية غير ممكنة نظراً للمعطيات الذاتية التي تتدخل في عملية الانتقاء والاختيار والإقصاء.. الخ.
إن مصطلح "السلطة الرابعة" ومبدأ أن وسائل الإعلام تمثل "كلب الحراسة" watchdog press وأنها تراقب الحكومة ضرب من الفلكلور والمبالغة في إعطاء المؤسسات الإعلامية قوة وسلطة أكثر من حجمها الحقيقي.
استقلالية المؤسسات الإعلامية أسطورة ومغالطة انتشرت عبر الأزمنة والدول. أما الواقع فهو شيء آخر تماماً. فهناك قوى خفية وظاهرة مالية وسياسية - تتنافس على التحكم في المؤسسات الإعلامية الأمر الذي يفتح لها المجال للتحكم في العقول والأفكار والرأي العام.
إن مقولة إن وسائل الإعلام تزود الجماهير بالمعلومات الضرورية لاتخاذ القرارات السليمة ومعرفة ما يدور حولهم وفي العالم، وفي إرساء قواعد الديمقراطية والحكم الرشيد، يشوبها الكثير من المغالطات والتعميمات التي لا تقوم على الواقع.
يحدد هربرت التشول في كتابه عملاء السلطة: دور وسائل الإعلام في الشؤون الإنسانية، القوانين السبعة للصحافة على النحو التالي: تخدم وسائل الإعلام، في مختلف الأنظمة الإعلامية، أصحاب النفوذ السياسي والاقتصادي. يعكس محتوى وسائل الإعلام مصالح الذين يمولونها. تؤمن الأنظمة الإعلامية المختلفة بحرية التعبير، رغم أن تعريف حرية التعبير يختلف من نظام إلى آخر. ت
ؤمن كل الأنظمة الإعلامية بمبدأ المسؤولية الاجتماعية وخدمة احتياجات ومصالح الجماهير كما تدعي هذه الأنظمة توفير المساحة اللازمة للجمهور للتعبير عن رأيه. يرى كل نظام إعلامي أن النظام الآخر منحرف. تدّرس أقسام الإعلام الأيديولوجيات والقيم السياسية والقانونية والتشريعية للمجتمع التي توجد فيه، مساعدة بذلك أصحاب السلطة على المحافظة على سيطرتها على وسائل الإعلام. تختلف ممارسة الصحافة عن نظريات الصحافة.
أصبحت وسائل الإعلام في القرن الحادي والعشرين تتميز بالصراع بين الوظائف السياسية والوظائف التجارية، وأصبح التركيز الأساسي يتمحور حول التسطيح والتهميش والثقافة الاستهلاكية عند المتلقي بهدف إدماج الجماهير في النسق الاستهلاكي كمستهلكين وليس كمشاركين في النظام السياسي.
فالفاعلون السياسيون ووسائل الإعلام يفضلون جماهير مستهلكة مندمجة في النظام لا تحاول أو تجرؤ على المطالبة بالتغيير. من جهة أخرى، أكدت الدراسات أنه في الوقت الذي زاد فيه عدد المؤسسات الإعلامية بأرقام كبيرة تراجع عدد الجمهور الذي بإمكانه التعبير عن رأيه وأفكاره في وسائل الإعلام.
للجمهور الحق في خمس خدمات تقدمها له وسائل الإعلام حسب لجنة "هوتشينس" 1947، والتي تتمثل فيما يلي: تغطية شاملة ومفهومة لأخبار اليوم، منبر لتبادل التعليقات، وسيلة لتقديم آراء ومواقف الجماعات من بعضها البعض. طريقة لتقديم وتوضيح أهداف وقيم المجتمع، طريقة للوصول إلى كل فرد في المجتمع.
من حق الجمهور إذن أن يتعرف ليس فقط على حقيقة الأحداث والوقائع بل عن سياقها والإطار الذي حدثت فيه بطريقة واضحة ومفهومة. فوسائل الإعلام لا تستطيع أن تعيش خارج النسق الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي التي توجد فيه، وهي في غالب الأحيان مرآة وانعكاس لآليات وميكانيزمات التحكم والمراقبة التي تفرضها القوى السياسية والاقتصادية الفاعلة في المجتمع..
والتي تتحكم كذلك في مخرجات النظام الإعلامي سواء عن طريق أدوات المال أو عن طريق السبل السياسية المختلفة. وهذا بالضبط ما لاحظناه في إعلام الربيع العربي الذي أنحرف عن المسار وعن أهداف الثورة وعاد إلى آليات إعلام البلاط والسلطة والقوة الفاعلة في المجتمع. فالديمقراطية لا يكتب لها النجاح في ظل إعلام موجه مقيد ومسيطر عليه. ما نلاحظه في دول الربيع العربي هو انفلات إعلامي صارخ اختلطت وامتزجت فيه الدعاية والحرب النفسية والتضليل والتشويه مع الإعلام.