خمسون عاماً مرّت على اغتيال الرئيس الأميركي جون كنيدي، ويتكرّر الآن ما يحصل عادةً كلّ عام في هذه المناسبة، من تعدّدٍ للاتّهامات والتفسيرات حول مقتل كنيدي، والجهة التي كانت تقف وراء الاغتيال، حتّى إنّ الوزير جون كيري دخل مؤخّراً في دائرة المشكّكين بما هو معلَنٌ، منذ نصف قرن عن الجهة التي قامت بعملية الاغتيال، فما زالت "نظرية المؤامرة" حاضرةً في الاتّهامات التي تتوزّع بين مسؤولية عصابات المافيا، وبين دور روسي/كوبي، وبين جهاتٍ أميركية داخلية فاعلة، كانت تريد تصعيد التورط العسكري الأميركي في حرب فيتنام، بينما لم يكن الرئيس كنيدي موافقاً على ذلك.

أيضاً، هناك اتّهامات لجماعات إسرائيلية بأنّها كانت وراء الاغتيال، بسبب رفض الرئيس كنيدي السماح لإسرائيل بامتلاك سلاح نووي، وبأنّ كنيدي كان يتواصل مع الرئيس جمال عبد الناصر، من أجل تأمين حلٍّ عادل للقضية الفلسطينية، ولمشكلة اللاجئين الفلسطينيين الذين طُرِدوا من أرضهم بعد قيام دولة إسرائيل.

وتتزامن الآن الذكرى الخمسون لاغتيال كنيدي مع تحرّك أميركي مميّز، تقوم به إدارة أوباما لإيجاد تسويات سياسية لأزمات مهمّة في منطقة الشرق الأوسط، تشمل الملف النووي الإيراني والحرب في سوريا والملف الفلسطيني.

طبعاً، هناك تلازم وتفاعل بين هذه القضايا الثلاث، وحلُّ أيٍّ منها، سيساعد على الحلول للأزمات الأخرى، وكان من المهم أن يسبق التحرّك الأميركي الجاد بشأنها، تفاهمات مع موسكو حول آفاق التسويات وسبل تحقيقها. لذلك وجدنا أنّ الاتفاق الأميركي/الروسي حول السلاح الكيمائي السوري، كان مدخلاً مهمّاً فيما بعد للتحرّك المشترك بين واشنطن وموسكو.

لكن مشكلة الرئيس أوباما في أجندته الشرق أوسطية، الثلاثية الأبعاد (إيران، سوريا، وفلسطين)، هي ليست مع خصومه الدوليين، بل مع أقرب حلفائه الآن، حيث وجدنا اعتراضات علنية قاسية على هذه الأجندة من إسرائيل وفرنسا والمملكة العربية السعودية. ورغم أهمّية التحفظّات الفرنسية والسعودية، فإنّ الأشد خطورة على استراتيجية التحرّك الدبلوماسي الأميركي الآن مصدره إسرائيل، وما لديها من نفوذ سياسي وإعلامي مؤثّر في الولايات المتحدة، وفي دول أوروبا.

وقد كان رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو واضحاً وصريحاً في اعتراضاته على التقارب الأميركي/الأوروبي مع طهران، إذ إنّ إسرائيل ترفض من حيث المبدأ وقف الصراع مع إيران، فكيف بتحقيق تفاهمات دولية معها.

إنّ إسرائيل تعمل منذ سنوات، خاصة منذ وصول نتنياهو للحكم في العام 2009، على جعل أولويّة الصراعات في المنطقة مع إيران وحلفائها بالمنطقة، وعلى إقامة محور عربي/إقليمي/دولي، تكون إسرائيل فيه هي الرائدة لإشعال حرب عسكرية ضدّ إيران ومن معها في سوريا ولبنان وفلسطين، فالمراهنة الإسرائيلية هي على تهميش الملف الفلسطيني، وعلى كسب الوقت لمزيد من الاستيطان في القدس والضفة الغربية، وعلى تفجير صراعات عربية داخلية بأسماء وحجج مختلفة، تجمع بين المطالبة بالديمقراطية وبين صراعات طائفية ومذهبية وقبلية، تؤدّي إلى تفتيت الكيانات العربية الراهنة، وعلى تدمير الجيوش العربية الكبرى في المنطقة، وعلى إقامة تطبيع سياسي وأمني مع كل الأطراف العربية.

كذلك راهنت حكومة نتنياهو على أنّ الحرب ضدّ إيران والتصعيد الدولي والإقليمي ضدّها، سيوجِد لإسرائيل أدواراً كبيرة سياسياً وأمنياً في عموم المنطقة، ومعظم دول العالم الإسلامي، وسيجعل من إسرائيل قوةً إقليمية ودولية كبرى في عصرٍ، بدأ يتّسم بالتعدّدية القطبية، بحيث تكون إسرائيل عندها قادرةً على فرض "شرق أوسطي جديد"، يسمح لها بتحقيق مشاريع اقتصادية متعدّدة، تشمل بناء قناة بديلة لقناة السويس، تصل البحر الأحمر بالبحر المتوسط، إضافةً إلى استثمار منابع النفط والغاز في الشاطئ الشرقي للمتوسط، وإقامة أنابيب للنفط والغاز من منطقة الخليج إلى الشواطئ الإسرائيلية، وما يمكن أيضاً أن تستثمره التكنولوجيا الإسرائيلية في البلدان المجاورة، التي ستحتاج إلى الكثير من مشاريع الإعمار، بعدما تضع الحروب الإقليمية والأهلية أوزارها.

ما سبق ذكره ليس من صنع الخيال، ولا هو بافتراءاتٍ على ما تريده إسرائيل في هذه المرحلة، بل هو واقعٌ حاصل على الأرض في القضايا الثلاث التي هي محور أجندة إدارة أوباما خلال فترته الثانية بالبيت الأبيض، فإسرائيل لن تخضع الآن للمطالبة الأميركية والدولية بوقف الاستيطان، ولن تقبل حتماً بتقسيم القدس ولا بحلّ قضية اللاجئين ولا بإقامة دولة فلسطينية مستقلة، ذات سيادة على حدود العام 1967، وهذه هي القضايا التي يدور الآن التفاوض بشأنها بين الفلسطينيين والإسرائيليين بضغط أميركي.

ثمّ إن إسرائيل لا تجد مصلحةً إطلاقاً في وقف نزيف الدم السوري، وفي إنهاء الأزمة الدموية السورية بتسوية، تحافظ على وحدة الكيان السوري، وتعيد بناء الدولة السورية، بينما تُهدّد هذه الأزمة أيضاً كلَّ المشرق العربي وحركات المقاومة فيه.

إذاً، هو تباينٌ كبير حاصلٌ الآن بين الاستراتيجية الإسرائيلية القديمة، وبين الأجندة الجديدة لإدارة أوباما التي تأخذ بعين الاعتبار المصالح الأميركية أولاً، تماماً كما فعل الجنرال أيزنهاور حينما كان رئيساً للولايات المتحدة، بوقوفه ضدّ العدوان البريطاني/الفرنسي/الإسرائيلي على مصر في العام 1956، وأيضاً كما كان بعده الرئيس جون كنيدي، الذي بعد اغتياله قدّم نائبه جونسون أقصى درجات الدعم لإسرائيل، وأدخل أميركا في حربٍ دامية بفيتنام.

سيكون من الصعب التنبؤ بمصير "أجندة أوباما" الشرق أوسطية، لكن ما حدث من ردود فعلٍ أميركية ودولية رافضة للضربات العسكرية لسوريا، التي هددّت بها إدارة أوباما قبل الاتفاقات مع موسكو، أوجد مناخاً رافضاً أيضاً لأي تورّط عسكري أميركي جديد في العالم.

أيضاً، فإنّ إدارة أوباما تعتمد الآن على زخمٍ دولي لدعم أجندتها، يرافقه متغيّرات سياسية إيجابية هامّة في إيران، لكن يبقى الأساس في عدم تراجع إدارة أوباما نفسها عن هذه "الأجندة"، وفي مصارحة الرأي العام الأميركي بما هو يجهله من حجم التباين الحاصل بين المصالح الأميركية، وبين الرؤى الإسرائيلية التي لا يخفى أيضاً حجم مسؤوليتها عن تراجع موقع الولايات المتحدة، نتيجة تأثيراتها السلبية في الإدارة السابقة وحروبها الفاشلة.