كان عام 2013 عام ترسيخ الانقسامات العربية، على المستويين الرسمي والشعبي. كان عاماً فيه الكثير من الدماء العربية، التي سالت حصيلة صراع العربي مع العربي الآخر. كان عاماً برزت فيه بشدّة أزمة الحكّام والمعارضين، معاً. فلا أسف على هذا العام الذي مضى، لكن من قال إنّ الأرقام والتواريخ هي التي تصنع تاريخ الشعوب والأمم؟! فالنّاس هم المسؤولون أولاً وأخيراً عن حصاد كل عام، وستكون كل سنة هي استمراراً لما قبلها، ما لم تتدخّل الإرادة الإنسانية لوقف التداعيات ولبناء مستقبل أفضل.
لِمَ لا تحدث الآن وقفة مع النفس العربية عموماً، والإسلامية منها خصوصاً، للتساؤل عمَّا حدث ويحدث في المنطقة العربية وخارجها، من أعمال عنف مسلّح تحت مظلّة دينية وشعارات إسلامية؟ ولِمَ هذا الانفصام في الشخصية العربية، بين الإجماع على المصلحة الإسرائيلية في إثارة موضوع «الخطر الإسلامي» القادم من الشرق كعدو جديد للغرب بعد اندثار الحقبة الشيوعية، وفي إضفاء صفة الإرهاب على العرب والمسلمين، وبين الانقسامات والصراعات الحاصلة في المجتمعات العربية، ووجود صمت أو تأييد تجاه ما يحدث من عنف مسلّح تقوم به جماعات تحمل أسماء إسلامية؟.
الاحتلال الإسرائيلي، بما هو عليه من احتلال استيطاني، يستهدف ابتلاع الأرض وإقامة مستوطنات فيها، وطرد أصحاب الأرض الشرعيين منها.. يجوز أن تحصل معه تسويات ومعاهدات، وأن تتمَّ في ظل دباباته المحتلة، انتخابات، بينما لا يجوز إعطاء هذا الحق لشعب سوريا الآن، أو لشعب مصر أو لشعب العراق مثلاً، كي يتسنّى لهذه الشعوب بناء دولها ومؤسساتها بلا عنف مسلّح!
هل يأمل البعض أن يؤدّي العنف المسلّح إلى خروج «الحاكم» وبقاء الأوطان موحّدة آمنةً مستقرّة؟ أليست تجارب «اللبننة» و«الصوملة» و«العرقنة» و«السودنة» و«السورنة» كافية لمعرفة أين تتّجه الأمَّة، وما المصير المحتوم لكل أوطانها في حال استمرار العنف المسلّح على الأرض العربية؟ وكيف تكون الجماعات التي تمارس العنف الداخلي المسلّح في مكان عربي ما، هي «مقاومة»، في حين أنّها «إرهاب» في مكان عربي آخر؟!
المشروع الإسرائيلي وحده مستفيدٌ من هذه الأعمال التي تجري الآن على أرض عربية خصبة لكل أنواع التمزيق والتقسيم والاقتتال الداخلي.. وما هي بصدفة سياسية أن يتزامن تصنيف العرب والمسلمين في العالم كلّه - وليس الغرب وحده - بالإرهابيين، مع خروج أبواق التعبئة الطائفية والمذهبية والعرقية في كلّ البلاد العربية!
ففي غياب المشاريع الوطنية التوحيدية الجادّة داخل البلاد العربية، وفي غياب المرجعية العربية الفاعلة، أصبحت المنطقة العربية مفتوحة ومُشْرَعة، ليس فقط أمام التدخل الأجنبي، بل أيضاً أمام مشاريع التقسيم والحروب الأهلية. وفي غياب المفاهيم الصحيحة للمقاصد الدينية، والقصور في شرح مضامينها السليمة، يصبح سهلاً استخدام الدين لتبرير العنف المسلّح ضد الأبرياء والمدنيين، وأيضاً لإشعال الفتن المذهبية والطائفية. وسوء كلا الأمرين يكمّل بعضه بعضاً، فتكون الأوطان والشعوب معاً هي الضحيّة.
إنّ الأمل كبير في وعي الشعوب العربية بمخاطر ما يحدث على أراضيها، وبما يحدث من إساءة استخدامٍ للدين نفسه، ففي كل بلد عربي، بل في كلّ مدينة وقرية عربية، هناك «مسجد ضِرار» يريد القيِّمون عليه إبقاءه، لكن مع هدم وتقسيم كل ما حوله ليسهل عليهم أيضاً بناء «الهيكل» من جديد!
وفي تقديري، فإنّ المشكلة ليست في ضرورة إحداث «الفصل» أو عدمه بين الدين والدولة في أي مجتمع، بل المشكلة هي كيفيّة فهم الدين وكيفيّة بناء الدولة.
وهناك في العالم نماذج مختلفة من الدول العلمانية واللاعلمانية، وفي المجموعتين، هناك أزمات كثيرة تتعلّق إمّا بفهم الدين أو بكيفية بناء الدولة. فقبل الوصول إلى الفصل المنشود بين الدولة السياسية والمرجعيات الدينية، فإنّ المجتمع بحاجة إلى فهم سليم للدين، يحرص على قيمه ومبادئه وغاية وجوده في الحياة، من حيث الدعوة للإيمان الديني الذي يحترم وجود وحقوق كل المؤمنين بالله، ويؤكد الأخوّة بين البشر والعمل الصالح في أي مجتمع، كما هناك حاجة قصوى إلى بناء الدول الخاضعة لمرجعية الناس، ولفصل السلطات فيها.
أمّا العطب الآخر في واقع حال العرب، فيرتبط بمسألة الهويّة الوطنية، حيث هناك تيه عربي في موضوع الهويّة، وكيف ينظر بعض العرب إلى دوائر انتمائهم بشكل متناقض، دون أي مبرّر موضوعي لذلك. فالانتماء للدين أو للتاريخ الحضاري الإسلامي، لا يتناقض مع الانتماء للهويّة الثقافية العربية، ولا مع الانتماءات الوطنية المتعدّدة في أرجاء الأمَّة العربية.
المشكلة الآن ليست في هذه الانتماءات الثلاثة: الدينية والقومية والوطنية، بل في هذا التفكّك الحاصل داخل بعض الأوطان العربية، وفي تغذية الانقسامات الطائفية والمذهبية والإثنية. فالتخلّي عن الانتماءات الجامعة بين العرب، لن يؤدّي إلى تقوية الهويّة الوطنية، بل إنّ ذلك هو مقدّمة للتخلّي عن الهوية الوطنية نفسها، لصالح انتماءات طائفية ومذهبية ضيّقة، تدفع بصراعاتها إلى حروب أهلية عربية، تدمّر الداخل وتفيد كل مشاريع الهيمنة الأجنبية.
ومع بدء كلّ عام جديد، يتجدّد عند الأفراد والشعوب الأمل بتغيير في حياتهم وظروفهم نحو الأفضل، دون إدراك أنّ «الزمن» وحده لا يُغّير الحال، وأنّ سياسة «حسيبك للزمن» ربّما تنجح عاطفياً، لكنّها لا تُغيّر عملياً من الواقع شيئاً. قد يحدث ربّما العكس، حيث يؤدّي تراكم السلبيات مع مرور الزمن، إلى مضاعفة المشاكل والأزمات.
إنّ نهاية عام وحلول عام جديد، هي مسألة رقمية رمزية، لا تغيّر شيئاً من واقع حال الإنسان. لكن المعنى المهم في هذا التحوّل الزمني الرقمي، هو المراجعة المطلوبة لدى الأفراد والجماعات والأوطان، لأوضاعهم وأعمالهم، بغاية التقييم والتقويم. فهي مناسبة لـ «وقفة مع النفس» من أجل محاسبتها، وهي حث للإرادة الإنسانية على التدخّل لتعديل مسارات تفرضها عادة سلبيات الأوضاع الخاصّة والظروف العامّة المحيطة.
فبداية هذا العام الجديد هي مناسبة لوقفة مطلوبة مع النفس العربية، تلك التي تبحث الآن في «جنس» هويّتها، بينما الأعداء يطرقون الأبواب، وبعضهم بات في الداخل!