رغم أنّ عالم اليوم يختلف كثيراً عمّا كان عليه في القرنين الماضيين، فإن هناك محافظة دولية على التسميات الأوروبية القديمة، التي كانت تُوزّع الأرضَ على تسمياتٍ محورها الدول الكبرى في القارة.
فما زالت أدبياتٌ من القرون الماضية تتحكّم في بعض تسميات الحاضر، رغم اختلاف الظروف والمعلومات ووقائع العصر الراهن. فتوزيع العالم بين "شرق" و"غرب"، و"شرق أدنى" و"شرق أوسط" و"الشرق الأقصى"، هي تسميات لحقبٍ تاريخية ولّت، وبالتالي تنعدم الآن صحّة رؤية العالم بين "شرق" و"غرب" بحكم اختلاف موازين القوى الدولية، وبسبب نسبية المكان أصلاً على أرضٍ كروية تسبح في فلكٍ عظيم.
هذه التسميات الأوروبية سبقت نشوء الدول والأمم كما نعرفها اليوم، ولم تكن قائمة على أساس حدود جغرافية دولية، ولا يشترك من فيها من شعوب في لغةٍ واحدة أو ثقافة واحدة. كانت تسميات ترتبط بالهيمنة والسيطرة العسكرية والاقتصادية، وهي أشبه بالدوائر المحيطة بنقطة المركز التي كانت لقرون طويلة في أوروبا.
وقد وجدت الولايات المتحدة الأميركية، خلال القرن الماضي، مصلحة في إبقاء "الغرب" كتلةً واحدة تحت قيادة أميركية، بل وجدت مصلحة أيضاً في إضافة دول أخرى إلى "المعسكر الغربي"، كما حصل ويحصل مع مجموعة دول أوروبا "الوسطى" و"الشرقية"، التي كانت محسوبةً على "الشرق السوفييتي" فإذا بها الآن تأخذ "الهوية الغربية" وتصبح جزءاً من "حلف الأطلسي"!
ثم ساهم دعاة "الإمبراطورية الأميركية" في مطلع القرن الجديد، في نشر وتعميم نظرية توزيع العالم على أساس حضارات متصارعة، ليتمّ تبرير حروب جديدة في "الشرق الأوسط" تمهّد في المستقبل أيضاً لهيمنة على "الشرق الأقصى".
ولعلّ أبرز المضامين المعطاة الآن لمفهوميْ "الشرق" و"الغرب"، هي قضايا تميّز بين كتل الشعوب (وليس الدول) على أسس سياسية وعقائدية وثقافية. فالغرب مصطلح يعني الآن الشعوب التي تعتمد الأنظمة السياسية الديمقراطية، ونظام الاقتصاد الحر، وتأخذ بالمنهج العلماني في الحكم. وبالتالي، فإنّ دولة مثل أستراليا الموجودة في أسفل الكرة الأرضية، وهي غير معنيّة جغرافياً بتوزيع العالم بين "الشرق" و"الغرب"، أصبحت الآن دولة فاعلة في معسكر "الحضارة الغربية"!
وقد وجدت إسرائيل ومن يدعمها من دول "الغرب" الأوروبي والأميركي، مصلحة كبيرة في هذه التسميات التي تجعل منها "دولة غربية" و"شرق أوسطية" معاً، إذ أنّ تسمية "الشرق الأوسط" تنزع الهويّة العربية عن المنطقة، فتقضم منها دولاً عربية وتضيف إليها إسرائيل، بكلّ ما تمثّله الأخيرة من ثقل عسكري وسياسي واقتصادي "غربي".
إذن، مبدأ توزيع العالم إلى "شرق" "غرب" هو حالة نسبية لا مضمون لها علمياً، والاختلال في ميزان التسميات حاصل كيفما نظرنا إلى دول "الشرق" و"الغرب". أمّا على "الجهات" الأخرى، أي "الشمال" و"الجنوب"، فنجد تصنيفاً مختلفاً يعتمد على التمايز الاجتماعي والاقتصادي بين دول شمال الكرة الأرضية ودول جنوبها. هو تمايز يقوم على مستويات الفقر والثراء، وعلى مدى التخلّف والتقدّم في الحياة الاقتصادية والنظم الاجتماعية.
وفي الحالتين؛ تقسيم العالم إلى "شرق" و"غرب" أو إلى "شمال" و"جنوب"، هناك مسؤولية أولى عن الاختلاف الحاصل بين المجتمعات، وهي مسؤولية الإمبراطوريات التي صنعت تقدّمها السياسي والاجتماعي عن طريق قهر شعوبٍ أخرى واحتلال أراضيها، ونهب ثرواتها الوطنية وإضعاف عناصر وحدتها الاجتماعية، فأفرز ذلك كلّه على مدار عقود من الزمن، تنميةً في بلدان أوروبا وشمال أميركا مقابل تخلّف في معظم المجتمعات الأخرى.
وقد جرت محاولات كثيرة بذلتها دول إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية (التي كانت تُعرف باسم "العالم الثالث")، لتصحيح هذا الخلل السياسي والاقتصادي والاجتماعي، لكنّ هذه المحاولات اصطدمت دائماً بما كان عليه العالم من هيمنة للقرار "الغربي" على مجريات الأحداث، وعلى مؤسسات دولية معنيّة بتصحيح الخلل، كالأمم المتحدة والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
طبعاً، التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وكذلك البناء الدستوري الداخلي السليم، هي مسائل مرتبطة حتماً بما تواجهه المجتمعات من تحدّيات خارجية، ومن أحداث أمنية تجري في محيطها الجغرافي أو داخل أوطانها. وهكذا هو حال المنطقة العربية، التي هي حالة فريدة جداً بين مناطق العالم، فهي صلة وصل بين "الشمال" و"الجنوب"، وبين "الشرق" و"الغرب"، وبين قارات آسيا وإفريقيا وأوروبا، وهي أيضاً مهبط الرسالات السماوية وأرض الحضارات القديمة. وعلى أرض العرب أيضاً ثروات طبيعية ومصادر للطاقة العالمية، تجعلها هدفاً دائماً للسيطرة والأطماع الأجنبية.
ولا يمكن لهذه المنطقة ككل أو لأجزاءٍ منها أن تختار السلامة والأمن عن طريق العزلة، فهناك حتمية الصراع الدولي والإقليمي على هذه المنطقة وموقعها وثرواتها، لكن ليست هناك حتمية لنتائج هذه الصراعات، فالأمر يتوقّف أصلاً على مدى الاختلال الحاصل في الميزان العربي، وهو الآن يشهد اختلالاً كبيراً في كل الاتجاهات!
إنَّ حال الضعف العربي المتراكم في العصر الحديث، هو بناء تدريجي قام على انعدام التوافق على مفهوم "الأمّة" بعد انتهاء حقبة الحكم العثماني، وتجزئة المستعمر الأوروبي بالتالي للمنطقة العربية، وقيام أوطان ضعُف فيها الولاء الوطني الواحد، وسادت في معظمها أوضاع انقسامية طائفيّة وقبليّة، فامتزجت التجزئة بين البلدان العربية مع الانقسامات الداخليّة في الأوطان.
لقد شهدت العقود الثلاثة الماضية ضغوطاً أميركيّة كثيرة من أجل التطبيع العربي مع إسرائيل، كمدخل مطلوب لمشروع "الشرق الأوسط الكبير"، الذي جرى الحديث عنه علناً في مطلع التسعينات بعد مؤتمر مدريد للسلام، وبما كتبه شيمون بيريز آنذاك من دعوة لتكامل التكنولوجيا الإسرائيليّة، والعمالة المصريّة، مع المال الخليجي العربي، في إطار "شرق أوسط جديد" يُنهي عمليّاً "الهوية العربية"، ويؤسّس لوضع إقليمي تكون فيه إسرائيل في موقع القيادة الفاعلة. هي الآن مرحلة حاسمة، ليس فقط في "تاريخ" العرب، بل أيضاً في"جغرافية" أوطانهم وفي "هويّتهم" وفي مستقبل أجيالهم.
إنّ الحروب الأهليّة هي طاحونة الأوطان في كلّ زمانٍ ومكان، وها هي المجتمعات العربيّة أمام تحدٍّ خطير يستهدف كلَّ من وما فيها. هو امتحان جدّي لفعل المواطنة في كل بلدٍ عربي، إذ لا يمكن أن يقوم وطنٌ واحد على تعدّدية مفاهيم "المواطنة" و"الهويّة". وحينما يسقط المواطن في الامتحان يسقط الوطن بأسره، وحينما تندثر "الهويّة العربية" ستزول معها وحدة الأوطان والشعوب.