لا أعلم إذا كان مقصوداً أن يتزامن الاستفتاء على مشروع الدستور المصري مع الذكرى 96 لميلاد جمال عبد الناصر، لكن هذا أمرٌ محمودٌ، حدث ليكون خير تكريمٍ لذكرى من عاش، ومات من أجل مصر والعرب.
ومشروع الدستور المصري كان وفياً لناصر وثورته في العام 1952، حيث جاء في ديباجة/مقدمة الدستور: (ثورة "23 يوليو 1952" التي قادها الزعيم جمال عبد الناصر، واحتضنتها الإرادة الشعبية، فتحقّق حلم الأجيال في الجلاء والاستقلال، وأكّدت مصر انتماءها العربي، وانفتحت على قارتها الأفريقية، والعالم الإسلامي، وساندت حركات التحرير عبر القارات، وسارت بخطى ثابتة على طريق التنمية والعدالة الاجتماعية).
ربّما يمكن القول إنّ مشروع الدستور نجح في وضع خلاصات الثورات الشعبية المصرية، التي حدثت على مدار قرنٍ من الزمن، منذ ثورة 1919 إلى ثورة 2011، إلى انتفاضة الشعب المصري في منتصف العام الماضي.
صحيحٌ أنّ هناك ملاحظات على بعض نصوص مشروع الدستور، وصحيحٌ أنّ التجربة الناصرية، سادها أيضاً العديد من السلبيات، لكن التقييم الإجمالي لمضمون بنود الدستور، ولإنجازات وخلاصات تجربة جمال عبد الناصر، تجعل كل منهما محطّة مشرقة في تاريخ النضال الوطني.
ومن المهمّ طبعاً التوقّف عربياً عند مواد الدستور المصري الجديد، ودراسة وتحليل بنوده، لأنّ ما ستشهده مصر في المستقبل القريب من متغيّرات سياسية ستكون مستندة لمواد هذا الدستور في حال نيله لثقةٍ شعبية مصرية كبيرة، وسيكون لكل ذلك انعكاساتٌ ضخمة على عموم المنطقة العربية، فمصر هي بيضة الميزان في هذه المنطقة، وما يحدث فيها يترك الأثر البالغ في القضايا العربية كلّها.
ما يحدث الآن في البلاد العربية، هو تأكيدٌ جديد على أهمّية إعادة قراءة "المشروع الناصري"، الذي لم يمنحه القدر الفرصة الزمنية الكافية لإثبات جدارته.
إنّ التجربة الناصرية كانت عملياً مجموعة من المراحل المختلفة، ولم تكن تسير في سياقٍ تطوّري واحد، فالمرحلة الأولى من ثورة 23 يوليو عام 1952، امتدّت لعامين جرى فيها التحوّل من النظام الملكي إلى الجمهورية، وجرت فيها محاولات استبيان آفاق النظام السياسي الجديد، وطبيعة العلاقة بين مجموعة من "الضباط العسكريين"، الذين اشتركوا في صنع الانقلاب العسكري، الذي تحوّل إلى ثورة شعبية، لكن لم يشتركوا في تفاصيل الرؤية الفكرية والسياسية المرجوّة لمصر المستقبل، فقد كانت هناك مبادئ عامّة مصرية محلية (المبادئ الستّة)، لكن من دون منظور استراتيجي أو عقائدي مشترك بين هؤلاء الضباط. وانتهت هذه المرحلة عام 1954 بتولّي جمال عبد الناصر القيادة مباشرة.
ورأى ناصر آنذاك أنّ الأولوية هي لتحرير مصر من الوجود العسكري الأجنبي، ومن القواعد البريطانية، فكانت "هيئة التحرير" هي الإطار السياسي الشعبي الأول، الذي أطلقته ثورة 23 يوليو، الذي تزامن مع فترة تأميم قناة السويس، والتصدّي للعدوان الثلاثي على مصر عام 1956،
ثمّ انتقلت التجربة الناصرية من معركة التحرّر ضدّ الهيمنة الأجنبية على أرضها إلى دعم ومساندة حركات التحرّر العربية ضدّ بقايا الاستعمار الأوروبي في المنطقة. وكانت تلك مرحلة إطلاق الدور العربي لمصر الناصرية، إضافةً إلى دورها الكبير في دول العالم الثالث، الذي تجلّى في إعلان مجموعة دول عدم الانحياز، ومساندة حركات تحرّر وطنية في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية.
وكان إعلان الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958 تتويجاً لهذه المرحلة القومية، التي قادها ناصر في النصف الثاني من عقد الخمسينيات. وبشكلٍ معاكس للسياق التصاعدي الذي كانت عليه ثورة ناصر في الخمسينيات، بدأ عقد الستينيات حاملاً معه مواجهة حادّة مع أطراف إقليمية ودولية، وفي ظلّ بناءٍ سياسي داخلي هش.
ولعلّ انهيار تجربة الوحدة بين مصر وسوريا (28 سبتمبر 1961) شكّل أفضل مثال على مزيج سلبيات البناء الداخلي وحجم التحدّيات الخارجية، فلم تكن جريمة الانفصال حصيلة مؤامرات خارجية فقط، إذ كانت هشاشة البناء الذي قامت عليه تجربة الوحدة هي العامل الأهم في حدوث هذا الانفصال.
ستّ سنواتٍ عجاف للتجربة الناصرية (منذ الانفصال عام 1961 إلى هزيمة العام 1967)، تخلّلتها صراعات عربية/عربية، وحرب اليمن، التي استنزفت الجيش المصري، وتركيز على "الفكر الاشتراكي"، الذي تشوّه مضمونه أحياناً بأفكار أخرى، وبعدم حسم ضدّ "مراكز القوى" داخل جسم القيادة المصرية.
لكن هزيمة العام 1967 كانت أيضاً نقطة تحوّل إيجابية كبيرة في التجربة الناصرية، من حيث تطهير الجسم السياسي والعسكري القيادي في مصر، وإعادة البناء السليم للمؤسسة العسكرية، ووضع أولويات المعركة ضدّ إسرائيل على حساب أي صراعات عربية أخرى، ثمّ بدء حرب استنزاف عسكرية على جبهة قناة السويس مهّدت عملياً لحرب أكتوبر عام 1973.
لكن خلاصات السنوات الست العجاف في الستينيات كانت مزيجاً من الدروس الهامة لمسألتيْ الوحدة العربية والصراع مع إسرائيل، إذ تبيّن أنَّ زخم المشاعر الشعبية لا يكفي وحده لتحقيق الوحدة، وأنَّ هناك حاجةً قصوى للبناء التدريجي السليم، قبل تحقيق الإندماج بين بلدين عربيين أو أكثر. وهذا ما حرص عليه عبد الناصر عقب حرب 1967، حينما رفض المناشدة اللّيبية، ثمَّ السودانية للوحدة مع مصر، واكتفى بخطوات تنسيق معهما، رافضاً تكرار سلبيات الوحدة الفورية مع سوريا.
كذلك، كان من دروس هزيمة 1967، وانفصال عام 1961، أنّ البناء الداخلي السليم، وتحقيق المشاركة الشعبية الفعّالة في الحياة السياسية، هما الأساس للحفاظ على أي تجربة تكاملية بين البلاد العربية، وهما أيضاً الأرض الصلبة لقيادة حركة التحرّر من أي احتلال أو هيمنة خارجية.
لكن هذه الدروس الهامّة لم تعش طويلاً بعد وفاة ناصر، وها هي الأمّة العربية الآن تعاني انعدام التضامن العربي، والانقسامات والصراعات.
إنّ التجربة الناصرية أصبحت الآن ملكاً للتاريخ، لها ما لها وعليها ما عليها، لكن قضايا العدل السياسي والاجتماعي، وبناء مجتمع المواطنة السليمة، والتحرّر من الهيمنة الأجنبية، والحفاظ على الوحدة الوطنية، والتمسّك بالهويّة العربية، هي أهدافٌ مستمرّة لشعب مصر، ولكل شعوب الأمّة العربية مهما تغيّرت أو أخطأت القيادات.