أمَّة أميركية واحدة مصنوعة من أمم.. وأمَّة عربية تتحوّل إلى أمم! وفي مثل هذا التاريخ من كل عام يُخاطب الرؤساء الأميركيون مواطنيهم عن "حال الاتحاد الأميركي"، ويكون الخطاب الرئاسي عادةً أشبه بتقييم لما أنجزته إدارة الرئيس وما تطمح لتحقيقه مستقبلاً.
ويتميّز خطاب "حال الاتحاد الأميركي" مطلع كلّ عام، بأنّه خطاب الأجندة أو الاستراتيجية التي سيعتمدها الرئيس وإدارته، لفترةٍ من الزمن، على الصعيدين الداخلي والخارجي.
وهو خطاب ينتهي عادةً بالتأكيد على "قوة الاتحاد الأميركي"، وعلى السعي لتعزيز هذه القوة.. أي هو عملياً تطبيقٌ لمقولة: "في الاتحاد قوَّة". وممّا يلفت الانتباه أنّ الدستور الأميركي، يمنع الحكومة الاتحادية المركزية من التدخّل في صلاحيات الولايات الخمسين التي يتألف منها "الاتحاد الأميركي"، لكن هذا الدستور لا يمنع إطلاقاً الحكومة المركزية (الإدارة) من التدخّل في شؤون الدول الأخرى!
إنّ الأمة الأميركية جرت "صناعتها" على مدار قرونٍ خمسة، فأنتجت "هُويّة أميركية واحدة" يعتزّ ويفخر بها كل أميركي، مهما كانت أصوله القومية أو الثقافية أو لون بشرته أو معتقده الديني أو موقع ولايته الحالية. فالأمّة الأميركية هي الآن أشبه بنسيج متعدّد الألوان، لكنّه "ثوب" أميركي مميّز له خصوصيته بين أمم العالم، ويحرص على صيانته كل الأميركيين.
هذا على الجانب الأميركي، فما هو "الحال العربي"؟!
لو سألنا كلَّ إنسانٍ عربي عن أولويّة اهتماماته العامّة الآن، لكانت الإجابة حتماً محصورةً في أوضاع وطنه الصغير، لا "وطنه العربي الكبير"، ولا قضيّته الكبرى فلسطين.. فالأمَّة الواحدة أصبحت الآن "أمماً"، وفي كلٍّ منها "أممٌ متعدّدة" بتعدّد الطوائف والقبائل والأصول الإثنية، ولدى كلٍّ منها أزمته الحادّة وصراعاته المفتوحة، دون أن يلوح أفقُ أملٍ أو حلٌّ قريب.
إنّ تعبير "الربيع العربي" أوحى وكأنّ ما يحدث في المنطقة العربية، هو ثورةٌ واحدة موحّدة في الأساليب والقيادات والأهداف والظروف، وعلى أرضٍ واحدة وفي كيانٍ واحد.. وهذا كلّه غير صحيح، فالمنطقة العربية هي أمَّةٌ واحدة، لكنّها تقوم على 22 دولة وكيانا وأنظمة حكم وظروف مختلفة.
وكان واضحاً، ومازال، غياب المعيار العربي الواحد لتقييم هذه الانتفاضات الشعبية. فقد يكون معيار البعض هو العامل السياسي المحلي فقط، من خلال تغيير أشخاص في الحكم أو إسقاط نظام، بينما قد يكون المعيار لدى البعض الآخر، مدى قدرة هذه الانتفاضات على البقاء متحرّرة من التدخّل الأجنبي وشروطه المستقبلية على النظام البديل. وتختلف المعايير العربية أيضاً، ممّا حدث حتّى الآن في المنطقة، تبعاً للمواقع العقَدية الفكرية والسياسية، كما في المعايير الدينية والمذهبية والإثنية عند من يعتبرونها مرجعيتهم لتحديد مواقفهم من أيّ شأن.
فما يحدث الآن في عموم أرض العرب، هو تعبيرٌ لا عن خطايا حكومات وأنظمة فقط، بل هو مرآةٌ تعكس الفهم الشعبي العربي الخاطئ للدين وللهويتين العربية والوطنية، ولمدى خلط بعض المعارضات بين مواجهة الحكومات وبين هدم الكيانات الوطنية، ولسقوط بعض المعارضين والمفكّرين في وحل وهُوّة التفكير الطائفي والمذهبي، وفي التماشي مع رغبات "الخارج" وشروطه للدعم والمساندة.
وقد كان من واجب الحركات السياسية الدينية أن تعطي الأولويّة لإصلاح المجتمع، لأنّ ذلك هو مبرّر وجودها الأساسي، وهو أيضاً السبيل الأسلم لإصلاح الدولة ونظام الحكم فيها.
فالحركات السياسية الدينية، حين تعطي الأولوية لتغيير أنظمة الحكم، فذلك يعني بالنسبة لها بناء أطر حزبية فئوية ثمّ صراعات سياسية يومية مع "الآخر" في المجتمع، ثمّ صراعات لاحقة داخلية على السلطة والمناصب.. بينما إصلاح المجتمع يعني بناءً سليماً للدعوة والدعاة، ويوجب حسن الأسلوب والتعامل مع "الآخر" في المجتمع، واستخدام التأثير الإيجابي في الناس، من خلال العمل الثقافي والفكري البعيد عن الفئوية والانتماءات الضيقة والمصالح الخاصة.
إنَّ الضعف العربي، المتراكم منذ أربعة عقود، هو بناء تدريجي كانت أسسه في تعطيل دور مصر العربي بعد المعاهدة مع إسرائيل، ثم في حجم التدخلات الأجنبية في أوطان لم يحصل التوافق بينها على مفهوم "الأمّة العربية"، بعد تجزئة المستعمر الأوروبي للمنطقة وقيام أوطانٍ غاب فيها الولاء الوطني الواحد، وسادت في معظمها أوضاع طائفيّة وقبليّة، فامتزجت التجزئة العربيّة بين الأوطان مع الانقسامات الداخليّة في كلّ وطن.
واللافت في "حال الواقع العربي" الآن، أنّ هناك سعياً محموماً لتدويل الأزمات الداخلية في المنطقة العربية، ممّا يُعيد معظم أوطانها إلى حال الوصاية الأجنبية التي كانت سائدة في النصف الأول من القرن العشرين.
ويترافق مع مشاريع التدويل الجارية حالياً، وجود "واقع حال" إسرائيلي يقوم على سعيٍ متواصل منذ عقودٍ من الزمن لدعم وجود "دويلات" طائفية وإثنية في المنطقة العربية.
وهناك خلاصات هامّة للعرب، من تاريخ التجربة الأميركية. فاستقلال أميركا عن التاج البريطاني كان حصيلة مقاومةٍ أميركية قادها جورج واشنطن، وهذا يؤكّد مشروعية وجود مقاومة عربية ضدّ الاحتلال الإسرائيلي.
وفي التجربة الأميركية أنَّ أبراهام لنكولن قاد الجيش الاتحادي الشمالي ضدَّ انفصال الجنوب الأميركي، ولم يكن موقف واشنطن آنذاك قائماً على حقّ "الجنوب الأميركي" في تقرير مصيره!
وفي التجربة الأميركية، أنَّ قادة 13 ولاية اجتمعوا في فيلادلفيا عام 1787 لأشهر عديدة، وهم يتحاورون حول كيفية تحقيق الاتحاد والتكامل بين هذه الولايات، بدلا من الشرذمة فيما بينها والصراعات التي عصفت بها عقب الاستقلال الأميركي. فلِمَ تناقضت السياسات الأميركية في المنطقة العربية مع خلاصات التجربة الأميركية؟ ولماذا شجّعت "واشنطن" على تجزئة الكيانات القائمة بدلاً من تسهيل الاتحاد فيما بينها، كما هي تجربة الولايات المتحدة؟!
إنَّ العرب يريدون لأمَّتهم ما أراده الأميركيون للأمَّة الأميركية، وهذا يعني مقاومة ضدَّ الاحتلال من أجل التحرّر الوطني.
والعرب يريدون لأمَّتهم حقّ اختيار البناء الدستوري السليم المتلائم مع طبيعة الأمَّة العربية وحضارتها، والذي يكفل أيضاً حرّيات المواطنين وحقوقهم في المشاركة في صنع القرار الوطني دون أيِّ تمييز.
والعرب يريدون لأمَّتهم تكاملاً بين أوطانها، وتطويرَ صيغ العمل العربي المشترك وصولاً إلى النموذج الاتحادي الأوروبي، إنْ تعذَّر الوصول الآن إلى النموذج الفيدرالي الأميركي. والعرب يريدون في أمَّتهم حقَّ رفض أيّة دعواتٍ انفصالية أو تقسيمية في أي بلدٍ عربي، وتثبيت وحدة الكيانات ووحدة الأوطان ووحدة المواطنين.
فلِمَ لا تجعل واشنطن من تجربتها التاريخية نموذجاً لشعوب العالم، فتكون أميركا فعلاً بمثابة "الحلم الأميركي"، لا كما كان حال سياستها "الكابوسية" القائمة على التدخّل السلبي في شؤون الدول الأخرى!
وإذا كان "حال الاتحاد الأميركي" مازال قوياً بفعل قوة الدستور الأميركي واستمرار "الاتحاد" بين الولايات الأميركية، فإنّ "الحال العربي" سيبقى ضعيفاً طالما أنّ الحياة الدستورية السليمة مغيَّبَة والصراعات الداخلية والعربية هي السائدة!