انعقد مؤخراً في واشنطن المؤتمر السنوي لمنظمة "إيباك"، وهي الجسم السياسي لما يُعرف بـ"اللوبي الإسرائيلي" في الولايات المتحدة.

وقد لاحظ المراقبون لهذا المؤتمر أن ظروف انعقاده، تختلف عن مؤتمرات السنوات الماضية، حيث فشلت "الإيباك"، خلال الأشهر الماضية في تغيير اتجاهات "البيت الأبيض"، في مسألتي سوريا، وإيران، إذ إنّ "الإيباك".

ومن ورائها حكومة نتانياهو، ضغطت على إدارة أوباما، من أجل القيام بضربات عسكرية ضدّ سوريا، ولوقف التفاوض مع إيران بشأن ملفها النووي، وفشلت "الإيباك" في المسألتين، إضافةً للخلاف مع حكومة نتانياهو حول قضية المستوطنات ومشروع "الدولة الفلسطينية".

لكن هل يعني هذا الخلاف الآن بين إدارة أوباما وحكومة نتانياهو، خلافاً بين أميركا ودولة إسرائيل؟ الجواب، كلا طبعاً، فحجم المساعدات الأميركية لإسرائيل ازداد في السنوات الماضية، ولم تقم إدارة أوباما بأي تجميد لما تمنحه الولايات المتحدة سنوياً لإسرائيل من مالٍ وسلاح ومساعداتٍ مختلفة، بل لم تهدّد بأي عقوبات ضد تل أبيب، رغم أن إدارات أميركية سابقة فعلت ذلك.

لقد كان مفهوماً في حقبة "الحرب الباردة"، الانسجام الكامل بين المصالح الأميركية والإسرائيلية، فإسرائيل كانت بالنسبة لواشنطن صمّاماً للأمان الأميركي في منطقة مجاورة للاتحاد السوفييتي السابق، ولأوروبا، وفيها أهم مصادر الطاقة العالمية.

وكانت إسرائيل تجسّد، في تلك الحقبة، دور "المخفر العسكري الأمامي"، الذي يحمي المصالح الأميركية، ويقوم بالنيابة عن واشنطن بما يستلزم من أعمال عسكرية قذرة، تهدف إلى ضبط المنطقة، في إطار المصالح الأميركية، ومنع تسرّب النفوذ السوفييتي إليها.

لكنّ انهيار المعسكر الشيوعي، أوجد مبرّراتٍ عديدة، لإعادة النظر في المفهوم الأميركي للدور الإسرائيلي، إلا أن الاختلاف الحالي بين واشنطن وتل أبيب، ومنذ مجيء إدارة أوباوما، ليس حول الموقف من الملف الفلسطيني فقط، بل هو اختلافٌ في الرؤى حول السياسة المتعلّقة بالشرق الأوسط عموماً.

وتحديداً حول كيفية التعامل مع إيران، حيث يسعى نتانياهو إلى توريط الولايات المتحدة في نزاع مسلّح معها، بينما تسير إدارة أوباما في نهجٍ مختلف، يراهن على المفاوضات والتسوية السياسية لقضية الملف النووي الإيراني.

وهناك حضورٌ كبير للضغط الإسرائيلي الفاعل داخل الولايات المتحدة، من خلال العلاقة المالية والسياسية مع أعضاء الكونغرس، ونتيجة الهيمنة على معظم وسائل الإعلام الأميركية، وحيث نجد الإدارات (الحكومات) في أميركا أسيرة ضغوط السلطة التشريعية (الكونغرس بمجلسه)، وعبر "السلطة الرابعة" أي الإعلام، فهذا العصر هو عصر "المال والإعلام"، ومن يملكهما يملك قدرة التأثير في صنع القرارات السياسية.

هكذا فعل "اللوبي الإسرائيلي" في الغرب عموماً، وفي أميركا خصوصاً، من حيث تركيزه على المؤسسات المالية والإعلامية في الغرب.

إنّ الفرز في الحياة السياسية الأميركية الآن، لا يكون فقط بين "حزب ديمقراطي" حاكم، و"حزب جمهوري" معارض، بل يتوزّع "التأثير الإسرائيلي" (كما هو أيضاً في قوى الضغط الأخرى) على الحزبين معاً، فنرى عدداً من "الديمقراطيي" يشاركون في ممارسة الضغط على الإدارة الحاكمة لصالح هذا "اللوبي" أو ذاك.

علماً بأنّ تعثّر "البرنامج الأوبامي" ليس سببه حصراً حجم تأثير "اللوبي الإسرائيلي"، فهناك قوى النفوذ المهيمنة تاريخياً على صناعة القرار وعلى الحياة السياسية الأميركية، وهي قوى فاعلة في المؤسسات المالية، والصناعية الأميركية الكبرى.

لكنْ هناك اختلال كبير في "ميزان الضغوط" على الإدارة الأميركية في موضوع "الملف الفلسطيني"، لجهة حضور "الضغط الإسرائيلي"، وغياب "الضغط العربي" الفاعل، ما يسهّل الخيارات دائماً للحاكم الأميركي بأن يتجنّب الضغط على إسرائيل، ويختار الضغط على الجانب العربي.

والطرف الفلسطيني تحديداً، وهو الطرف المستهدف أولاً من قِبَل إسرائيل، كما أنّه "الحلقة الأضعف" دائماً! ولعلّ خير مثال على ذلك، هو تخلّي إدارة أوباما عن شرط تجميد المستوطنات قبل استئناف التفاوض من جديد على المسار الفلسطيني/ الإسرائيلي، الذي هو الأساس لأي عملية تسوية شاملة للصراع العربي/ الإسرائيلي، تريدها واشنطن.

مستقبلاً كونها جزءاً من ترتيب جديد للمنطقة، يشمل الموقف الأميركي من إيران وسوريا، وهما دولتان لهما تأثير كبير في أوضاع العراق، ولبنان، والأردن، والخليج العربي، وفي مستقبل القضية الفلسطينية، والصراع مع إسرائيل.

وقد كان رئيس الوزراء الإسرائيلي نتانياهو واضحاً وصريحاً في اعتراضاته على التقارب الأميركي/ الأوروبي مع طهران، وأطلق التحذيرات العلنية من الوصول إلى اتّفاقات مع إيران حول ملفّها النووي، حتّى قبل حصول أيِّ اجتماع أو اتفاق، إذ ترفض إسرائيل، من حيث المبدأ وقف الصراع مع إيران، فكيف بتحقيق تفاهماتٍ دولية معها!

إنّ إسرائيل تعمل منذ سنوات، خاصة منذ وصول نتانياهو للحكم في 2009، على جعل أولويّة الصراعات في المنطقة مع إيران وحلفائها، وعلى إقامة محور عربي/ إقليمي/ دوليا تكون إسرائيل فيه هي الرائدة، بحيث تتحقّق عدّة أهداف مهمّة جداً لكل الاستراتيجية، والمصالح الصهيونية في المنطقة والعالم.

وراهنت حكومة نتانياهو على أنّ التصعيد الدولي والإقليمي ضدّ إيران، سيوجِد لإسرائيل أدواراً كبيرة سياسياً وأمنياً في عموم المنطقة، ومعظم دول العالم الإسلامي، وسيجعل من إسرائيل قوةً إقليمية ودولية كبرى، في عصرٍ بدأ يتّسم بالتعدّدية القطبية، بحيث تكون إسرائيل عندها قادرةً على فرض "شرق أوسط جديد"، يسمح لها بتحقيق الهيمنة الأمنية والسياسية والاقتصادية على كل المنطقة، ثمّ إن إسرائيل لا تجد مصلحةً إطلاقاً في توصّل المفاوضات مع إيران إلى نتائج إيجابية، ولا في إنهاء الأزمة الدموية السورية بتسوية تحافظ على وحدة الكيان السوري، وتعيد بناء الدولة على أسس سليمة.

إذاً، هو تباينٌ كبير حاصلٌ الآن بين استراتيجية الحكومة الإسرائيلية، وبين أجندة إدارة أوباما، التي تأخذ بعين الاعتبار المصالح الأميركية أولاً، لكنها ممتنعة عن الضغط الفاعل على إسرائيل.

وسيكون من الصعب الآن التنبؤ بمصير "أجندة أوباما" الشرق أوسطية، بعد التطورات الأخيرة في أوكرانيا، فالعلاقة الجيدة مع موسكو والتفاهمات معها، كانت هي مدخل إدارة أوباما لمشاريع التسويات السياسية للملفين السوري والإيراني، وحكومة نتانياهو تدرك ذلك، وهي ليست بعيدة عما يحدث في أوكرانيا، تماماً كما كانت إسرائيل مؤثرة في تفاعلات أحداث جورجيا سابقاً.

واقع الحال الآن أنّ إدارة أوباما تواجه أزمة كبيرة في العلاقات مع موسكو، وأصبحت منشدّة لأزمة دولية في أوروبا، وتخضع لضغوط إسرائيلية من الداخل والخارج، بينما التأثير العربي الفاعل مفقودٌ في الحالات كلّها!