أمورٌ كثيرة تغيّرت واتّضحت، بعد ثلاث سنوات من حصول انتفاضاتٍ شعبية كبيرة في عدّة بلدان عربية. ولعلّ أهم هذه الأمور، أنّ هناك تبايناتٍ عديدة بين ما حدث في كلٍّ من هذه البلدان. فما بدأ في تونس كثورة شعبية محلية لم تقف خلفها أي جهة خارجية، لم يكن هو الحال نفسه في كلّ الأمكنة الأخرى التي شهدت هذه الانتفاضات.
فالثورة الشعبية التونسية ألهمت فعلاً شعوباً عربيةً أخرى، لكنّها أيضاً ألهمت ودفعت قوًى إقليمية ودولية للاستفادة من "الدرس التونسي" ومحاولة توظيف مثاله في بلدان أخرى، ولغاياتٍ لا تتعلّق أبداً بمكافحة الفساد والاستبداد.
وجيّد أن يُدرِك الآن الكثيرون من العرب، ما كنّا نحذّر منه منذ بداية الانتفاضات الشعبية من مخاطر غموض طبيعة الثورات وعدم وضوح برامجها ومن يقودها، ومن التبعات الخطيرة لأسلوب العنف المسلّح ولعسكرة الحراك الشعبي السلمي، وأيضاً من عبثية المراهنة على التدخّل العسكري الخارجي، ونتائجه في حال حصوله، على وحدة الشعوب والأوطان.
نعم، هناك ضرورةٌ قصوى للإصلاح والتغيير في عموم المنطقة العربية، ولوقف حال الاستبداد والفساد السائد فيها، لكن السؤال كان، ولا يزال، هو كيف؟ وما ضمانات البديل الأفضل؟ وما هي مواصفاته وهويّته؟! فليس المطلوب هدم الحاضر دون معرفة بديله، أو كسب الآليات الديمقراطية في الحكم بينما تخسر الأوطان وحدتها أو تخضع من جديد للهيمنة الأجنبية، إذ لا يمكن الفصل في المنطقة العربية بين هدف الديمقراطية، وبين مسائل الوحدة الوطنية والتحرّر الوطني والهويّة العربية.
فهل نسي البعض ما قامت به إدارة بوش بعد غزوها للعراق، من ترويج لمقولة "ديمقراطية في الشرق الأوسط" تقوم على القبول بالاحتلال والهيمنة الأجنبية، ونزع الهوية العربية، وتوزيع الأوطان إلى كانتونات فيدرالية؟ ألم يكن ذلك واضحاً في نتائج حكم بول بريمر للعراق، وما أفرزه الاحتلال الأميركي من واقع سياسي تسوده الانقسامات الطائفية والإثنية، بل والجغرافية للوطن العراقي؟
ألم يحدث ما هو أخطر من ذلك في السودان من تقسيم لشعبه وأرضه؟ ألم تكن هذه أيضاً مراهنات إدارة بوش وإسرائيل من حربيهما على لبنان وغزّة عام 2006، بعدما فشلت "الانتخابات الديمقراطية" فيهما في إيصال من راهنت عليهم واشنطن وتل أبيب؟!
ما يُبنى على خطأ يؤدّي إلى نتائج خاطئة. هكذا هو الآن حال الأوضاع العربية كلّها، هو حال معظم الحكومات كما هو أمر معظم المعارضات.
فحينما يتمّ بناء دول على أسس خاطئة، فإنّ ذلك دعوة للتمرّد ولمحاولات الإصلاح، لكن في المقابل، حينما تكون حركات التغيير الإصلاحية هي نفسها مبنيّة على أفكار أو أساليب خاطئة (أو الحالتين معاً)، فإنّ ذلك يؤدّي إلى مزيدٍ من تراكم الأخطاء في المجتمع، وإلى مخاطر على الوجود الوطني كلّه.
لقد سقط النظام الليبي السابق بفعل تدخّل "الناتو" وقُتل القذافي والكثير من عائلته وأعوانه، فهل انتقلت ليبيا إلى وضع أفضل؟ للأسف، ليس مؤسسات الدولة الليبية فقط هي المعطّلة الآن، وليس الأمن والاستقرار فقط هما المفقودين في ظلّ حضور الميليشيات المسلحة، بل وحدة المجتمع الليبي مهدّدة من أساسها، وتنخر الآن في هذا المجتمع أسوأ الفتاوى والجماعات التكفيرية، ممّا ينذر بتقسيم ليبيا وبفوضى أمنية وسياسية لا حدود مكانية أو زمانية لها.
هذه هي محصّلة التدخل العسكري الأجنبي الثاني في المنطقة، في مطلع هذا القرن (بعد العراق)، وهذه هي نتيجة "عسكرة" الحراك الشعبي وثمن الارتباط بجهاتٍ خارجية.
فما هي صورة المستقبل السوري على ضوء التجربة الليبية، وبعد سوابق التجربتين اللبنانية والعراقية، وبحضور "النصرة" و"داعش" وما بينهما؟! بل ما هو مصير كل المشرق العربي، بما فيه لبنان والعراق والأردن بعد ذلك؟! وما سيكون مصير القضية الفلسطينية فيما بعد التفكّك الذي سيحصل في بلدان المشرق العربي وحروب الطوائف والجماعات المسلّحة فيه؟!
هناك حتماً أبعادٌ خارجية مهمّة للصراع المسلّح الدائر الآن في سوريا، وهو صراع إقليمي/ دولي على سوريا، وعلى دورها المستقبلي المنشود عند كلّ طرفٍ داعمٍ أو رافضٍ للنظام الحالي في دمشق.
لكنّ "الاحتكام للشعب" هو الحلّ المطلوب لما يحدث من نزيف دم في سوريا، وليكن الشعب السوري فعلاً هو المرجعية مستقبلاً لتقرير مصير وطنه وحكمه ورئيسه، من خلال فترةٍ انتقالية قصيرة متلازمة مع مواجهة أمنية ضدّ كل الجماعات الإرهابية المجمع على رفضها الآن.
سوريا الآن، كياناً وحكومةً وشعباً، أمام خياراتٍ صعبة، لا يُعبّر أيٌّ منها عن كل "رغبات" أيِّ طرفٍ محلي أو خارجي معنيٍّ الآن بتطوّرات الأزمة السورية، فالفارق كبير بين "المرغوب فيه" و"الممكن فعله".
فقط "الرغبات" الإسرائيلية و"ما تريده" تل أبيب من تطوّرات الأزمة السورية هو الذي يتحقّق الآن، وهو مزيدٌ من التفاعلات والنتائج السلبية، داخلياً وإقليمياً، والمراهنة على تطوير "العلاقات" مع بعض قوى المعارضة، وعلى عدم التوصل إلى أيِّ حلٍّ سياسي في القريب العاجل.