تحلّ منتصف هذا العام الذكرى المئوية لاندلاع الحرب العالمية الأولى، التي كانت لحظة تحوّلٍ في تاريخ العالم، حيث ظهر بعدها أوّل حكم شيوعي، وقام ما كان يُعرف بالاتحاد السوفييتي، ليكون المنافس الأكبر لمجموعة دول كبرى أخرى اعتمدت النظام الاقتصادي الرأسمالي.
كذلك كانت هذه الحرب بداية الامتداد العسكري الواسع لأميركا، ولتغيير في خرائط الدول، كما كانت نهايةً للحقبة العثمانية التي امتدّت أربعة قرون من الزمن. ولعلّ ما يفيدنا كعرب في دراسة هذه الفترة التاريخية، هو هذا التزامن الذي حدث في مطلع القرن الماضي بين نتائج الحرب الأولى وخضوع المنطقة العربية للاستعمار الأوروبي، وبين ظهور الحركة الصهيونية بعد تأسيسها في مؤتمر بازل عام 1897.
وتشهد الآن الأرض العربية جملة تحوّلاتٍ سياسية شبيهة بما حدث منذ مئة عام تقريباً، بعد ما أفرزته الحرب العالمية الأولى من نتائج، في ظلّ ما كان يُعرف تاريخياً بمصطلحات بدأت مع تعبير «المسألة الشرقية» وانتهت بتعبير «وراثة الرجل التركي المريض».
فقد حصلت في تلك الفترة مراهناتٌ عربية على دعم الأوروبيين لحقّ العرب في الاستقلال والتوحّد في دولة عربية واحدة. وسُمّيت تلك المرحلة بـ»الثورة العربية الكبرى»، والتي قادها الشريف حسين حاكم مكّة عام 1916 ضدّ الدولة العثمانية بدعمٍ من بريطانيا.
لكن هذه المراهنة العربية على «الوعود البريطانية» لم تنفّذ، بل ما حصل هو تنفيذ وعد بلفور للحركة الصهيونية بمساعدتها على إنشاء «وطن قومي يهودي» في فلسطين. فما بدأ كثورةٍ عربية مشروعة في أهدافها، انتهى إلى ممارسات وظّفتها القوى الأوروبية لصالحها، كما استفادت الحركة الصهيونية منها فنشأت «دولة إسرائيل» ولم تنشأ الدولة العربية الواحدة! الآن نجد أنّ هناك سعياً محموماً لتدويل الأزمات الداخلية في المنطقة العربية، ممّا يُعيد معظم أوطانها إلى حال الوصاية الأجنبية التي كانت سائدة في النصف الأول من القرن العشرين.
ويترافق مع ذلك وجود واقع مؤلم داخل المجتمعات العربية، من حيث انتشار وباء الانقسامات الطائفية والمذهبية والإثنية، وضعف مناعة الجسم العربي لمواجهة هذا الوباء. ومع ذلك كلّه سعيٌ إسرائيلي متواصل منذ عقودٍ، لدعم وجود «دويلات» طائفية وإثنية في المنطقة العربية.
فوجود «دويلات» دينية طائفية في المنطقة، هو الذي يحلّ معضلات إسرائيل الداخلية والخارجية. وشعار «يهودية» دولة إسرائيل أو «إسرائيل دولة لليهود»، سيكون مقبولاً ليس دولياً فقط، بل عربياً أيضاً حينما تكون هناك دويلات سنّية وشيعية ودرزية وعلوية ومارونية وقبطية وكردية ونوبية وأمازيغية!
وحينما تنشأ هذه الدويلات فإنّها ستحتاج إلى زيادة ديمغرافية في عدد التابعين لهذه الطائفة أو ذاك المذهب، ممّا سيسهل حتماً مشروع توطين الفلسطينيين خارج فلسطين، وفي ذلك حلٌّ لقضية «اللاجئين الفلسطينيين» تُراهن أيضاً إسرائيل عليه. إنّ أبرز التحدّيات التي تواجه أي وطن أو أمَّة، تتمحور حول مسألة الحرّية، سواء أكانت «حرّية الوطن» من الاحتلال أو «حرّية المواطن» من الاستبداد الدّاخلي. لكن رغم صحّة هذا الأمر من الناحية العامّة، فإنَّ أساس المشكلة في الواقع العربي الراهن، هو غياب الاتفاق على مفهوم «الوطن» وعلى تعريف «المواطنة».
ولعلّ ما حدث ويحدث في عدّة دول عربية من صراعاتٍ على «الوطن» ومن انقساماتٍ حادّة بين «المواطنين»، أمثلة حيّة على مكمن المشكلة السائدة الآن في المجتمع العربي. أمّا الاحتلال في أيّ بلد من العالم، فهو ليس ناجماً عن قوة المحتل وجبروته فقط، بل أيضاً عن ضعفٍ في جسم البلد الذي يخضع للاحتلال، وهو أمرٌ بات يُعرف بمصطلح «القابلية للاستعمار أو الاحتلال». وبالتالي، فإنَّ كلاً من العنصريْن (قوّة الغازي وضعف المغزوّ) يؤدّي إلى تقوية الآخر.
وهكذا كان الحال في الحروب العربية -الإسرائيلية، وما سبقها من حقبة الاستعمار الأوروبي في مطلع القرن العشرين، عقب الحرب العالمية الأولى. ومواجهة الاحتلال لا تكون حصراً بالوسائل العسكرية، بل أيضاً بإسقاط الأهداف السياسية للمحتل، وبناء قوّة ذاتية تنهي عناصر الضعف التي أتاحت للاحتلال أن يحدث أصلاً.
لذلك نجد أنَّ حال الضعف العربي المتراكم في العصر الحديث، هو بناء تدريجي قام على انعدام التوافق أولاً على مفهوم «الأمّة العربية» ـ وهي هنا مشكلة تعريف «الوطن» - بعد انتهاء حقبة السيطرة العثمانية، ثمّ تجزئة المستعمر الأوروبي للمنطقة العربية، وقيام أوطان ضعُف فيها الولاء الوطني الواحد وانعدم فيها «مفهوم المواطنة»، وسادت في معظمها أوضاع انقسامية طائفيّة وقبليّة، فامتزجت التجزئة بين البلدان العربية مع الانقسامات الداخليّة في الأوطان.
اليوم، تعيش الأمّة العربية أوضاعاً مشابهة لما كانت عليه منذ مئة عام، وهي تدخل مرحلة شبيهة بما حصل عقب الحرب العالمية الأولى من دخول عدّة بلدان عربية في مرحلة «الانتداب» الدولي. وأيضاً، تتكرّر اليوم أخطاء القرن الماضي، من حيث الاشتراك العربي في وصف الواقع الحاضر، لكن مع عدم الاتفاق على مشروع عربيٍ مشترك للمستقبل.
ولعلّ أبرز السمات المطلوبة لهذا المشروع العربي المستقبلي، ضرورة تبنّي الخلاصات التي أدركها الأوروبيون عقب الحرب العالمية الثانية، وبدأوا معها ومن خلالها مسيرة الاتحاد الديمقراطي الأوروبي، وأن تكون في هذا «المشروع المستقبلي العربي» تلك الخلاصات التي وضعها دعاة النهضة والإصلاح في المنطقة العربية.
ولن يرى النور هذا «المشروع المستقبلي العربي»، ما لم يحصل إصلاحٌ ونهضة في واقع حال جماعات الفكر ومؤسسات المجتمع المدني العربي، وفي المنظمات السياسية التي تطرح نفسها كأدوات للتغيير أو كبدائل لما هو قائم في الواقع العربي الراهن. المفكّرون والمثقّفون والإعلاميون العرب معنيّون الآن بالتفكير في كيفية وضع «مشروع نهضوي عربي مشترك»، وليس فقط في التحليل السياسي للواقع الراهن.
الدول الكبرى التي سيطرت في القرن الماضي أو تهيمن الآن على المنطقة العربية، غاب عنها درس تاريخ البشرية عموماً، وليس فقط محصّلة مئة عام، بأنّ الشعوب يمكن تضليلها أو قهرها أو احتلالها لفترةٍ من الوقت، لكن هذه الشعوب لا يمكن أن تقبل بديلاً عن حرّيتها، وأنّ الأوطان العربية لو تجزّأت سياسياً، فهي موحّدة في ثقافتها وفي تاريخها وفي همومها وآمالها، وإن ازدادت المسافات بين الحكومات والكيانات بعداً.