صحيحٌ أنّ هناك خصوصيات يتّصف بها كلُّ بلدٍ عربي، لكن هناك أيضاً مشاكل مشتركة بين أقطار الأمَّة العربية، وهي مشاكل تنعكس سلباً على الخصوصيات الوطنية ومصائرها. لذلك هناك حاجة ماسَّة الآن لمشروع عربي نهضوي مشترك.
كما هي الحاجة للمشاريع الوطنية التوحيدية داخل الأوطان نفسها. فسلبيّات الواقع العربي الراهن، لا تتوقّف على سوء الأوضاع العربية الداخلية ومخاطر التدخّل الأجنبي فقط، بل تنسحب أيضاً على كيفيّة رؤية العرب لأنفسهم وهويّتهم ولأوضاعهم السياسية والاجتماعية، وعلاقاتهم مع القوى الخارجية.
ولعل التّعامل مع سلبيّات الواقع والعمل لإيجاد بدائل إيجابيّة، يتطلّب تحديد جملة مفاهيم وبرامج عمل ترتبط بالهويّة والانتماءات المتعدّدة للإنسان العربي، وبدور الدّين في المجتمع، والعلاقة الحتمية بين حرّية الوطن وحرّية المواطن، والفهم الصّحيح للعروبة والمواطنة، وللعلاقة مع «الآخر»، وأخيراً في التلازم المنشود بين الأهداف الوطنية وأساليب العمل اللاعنفية.
لكن من المهمّ التوقّف عند ملاحظة السياق العام لتاريخ المنطقة العربية، حيث إن «الخارج الأجنبي» يتعامل معها كوحدة متكاملة ومتجانسة، في الوقت ذاته الذي يدفع فيه هذا «الخارج» أبناء الداخل العربي إلى التمزّق والتشرذم والارتباط المصلحي معه.
هناك تغييرٌ بلا شكّ يحدث الآن في المنطقة، لكنّه تغيّر دون حسمٍ للاتجاه الذي يسير فيه، فالمتغيّرات العربية تحدث الآن في اتجاهاتٍ مختلفة، وليس لها مستقرّ واحد يمكن الوصول إليه، فهناك جملة عوامل تتفاعل الآن لإحداث تغييرات داخل المنطقة العربية، بعضها هو نموّ طبيعيّ في مجتمعات الأمَّة، وبعضها الآخر مشاريع خارجية تراهن على حصادٍ خاصّ، يتناسب مع مصالحها في المنطقة.
إنّ الأشهر القادمة من العام الجاري، هي أشهرٌ حاسمة لمصير بعض الأوطان العربية وللأزمات القائمة في عموم المنطقة. فما كان قِطَعاً مبعثرة ومتناثرة؛ من أزماتٍ إقليمية متنوعة، ومن حالات ظلم واستبداد وفساد على المستوى الداخلي، ومفاهيم ومعتقدات فكرية وثقافية سائدة في المجتمعات، تجمّعت كلّها الآن وامتزجت مع بعضها، في ظلّ متغيّرات دولية لها انعكاساتها حتماً على مصير الأوطان العربية، وما يحدث في بعضها من حراكٍ شعبي أو من مظاهر حروبٍ أهلية.
صحيحٌ أنّ الانتفاضات الشعبية نجحت في تغيير الحاكمين لبعض الأنظمة، لكن تفاعلات ما بعد ذلك كانت - ولا تزال - حبلى بالمخاطر على مستقبل هذه الأوطان ووحدة شعوبها..
المشكلة عربياً لم تكن ـ وليست الآن - في الأشخاص والحكومات فقط، بل أيضاً في السياسات، وفي نهج التبعية للخارج، وفي بعض المفاهيم والمعتقدات على المستويين «النخبوي» و»الشعبي»، وفي وجود حالاتٍ انقسامية داخل مكوّنات الأوطان العربية وبين الأوطان نفسها. لذلك تتأكّد أهمية الجمع في أهداف التغيير، بين شعارات الديمقراطية والوحدة الوطنية والعدالة والتحرّر الوطني والهويّة العربية..
حيث في تلازم هذه الأهداف والتمسّك بسلمية الأساليب، ضمانات لنجاح التغيير العربي المنشود فعلاً، وعدم حرفه أو انحرافه عن مساره السليم. والأشهر القادمة من هذا العام حاسمةٌ أيضاً لأزماتٍ إقليمية عديدة، وهناك الآن سعيٌ محموم لدى الإدارة الأمريكية للتعامل معها بالجملة، بعد فشل التعامل معها سابقاً بالمفرّق.
إنّ رؤية احتمالات الأحداث وتطوراتها القادمة هذا العام، تتطلّب التعامل مع أوضاع الأمَّة العربية ككل، وعلى ما يحدث فيها وحولها من متغيّرات سياسية، قد تُدخِل بعض شعوبها في التاريخ، لكنها قد تُخرج أوطانها من الجغرافيا.
وهناك الآن تساؤلاتٌ عديدة تفرضها التطوّرات الراهنة في المنطقة العربية، فحتماً هي مسألة إيجابية ومطلوبة، أن يحدث التغيير في أنظمة الحكم التي قامت على الاستبداد والفساد، وأن ينتفض النّاس من أجل حرّيتهم ومن أجل الديمقراطية والعدالة.
لكن معيار هذا التغيير، أولاً وأخيراً، هو وحدة الوطن والشعب واستقلالية الإرادة الشعبية عن التدخّلات الأجنبية. فما قيمة أيِّ حركةٍ ديمقراطية إذا كانت ستؤدّي إلى ما هو أسوأ من الواقع القائم، أي إلى تقسيم الأوطان والشعوب ومشاريع الحروب الأهلية؟! ثمّ ما هي ضمانات العلاقة مع الخارج الأجنبي؟ وما هي شروط هذا الخارج حينما يدعم هذه الانتفاضة الشعبية أو تلك؟!
المشكلة هنا ليست في مبدأ ضرورة التغيير ولا حقّ الشعوب في الانتفاضة على حكّامها الظالمين، بل في الوسائل التي تُعتَمد، وفي الغايات التي تُطرَح، وفي النتائج التي تتحقَّق أخيراً.
الجميع الآن ينتظر ما ستسفر عنه الأشهر القادمة من متغيّراتٍ سياسية جذرية في المنطقة العربية، وليس في الحكومات والأشخاص فقط، لكن من المحتّم أنّ القوى الدولية والإقليمية الفاعلة ليست جالسةً مكتوفة الأيدي ومكتفيةً بحال الانتظار. فهي تعمل بلا شك على تهيئة نفسها لنتائج هذه المتغيّرات، بل تحاول الآن استثمارها أو حرفها أو محاصرتها أو التحرّك المضاد لها.. وهي كلّها حالاتٌ قائمة مرتبطة بمكان هذه المتغيّرات وظروفها، بينما لا تتوفر بعدُ رؤية عربية مشتركة لكيفية مواجهة تحدّيات الحاضر، ولا طبعاً لمستقبل العرب وأوطانهم!
جسد الأمة العربية يحتاج الآن بشدّة لإعادة الحيوية النابضة في قلبه المصري، في ظلّ أوضاعٍ عربية كانت تسير في العقود الأربعة الماضية من سيئ إلى أسوأ، ومن هيمنة غير مباشرة لأطراف دولية وإقليمية إلى تدخّل مباشر في بلدان الأمّة، بل باحتلال بعضها، كما حدث أميركياً في العراق، وإسرائيلياً في لبنان وفلسطين، وغير ذلك على الأبواب الإفريقية والآسيوية للأمّة العربية، التي بدأت كياناتها الكبرى بالتصدّع واحدةً بعد الأخرى.
إنّ العرب جميعاً الآن قلقون على مصر، وكلّهم أملٌ بأن تعود مصر لدورها الريادي العربي، وأن تستقرّ أوضاعها الأمنية والسياسية والاقتصادية، وأن تتحرّر القاهرة من القيود التي كبّلتها لأكثر من ثلاثة عقود، فأضعفتها داخلياً وخارجياً.
مصر لها الدور الريادي في التاريخ القديم والحديث للمنطقة، ومصر لا يمكن أن تعيش منعزلة عن محيطها العربي وعمّا يحدث في جناحيْ الأمّة في المشرق والمغرب العربيين، فمصر في موقع القلب، وأمن مصر وتقدّمها يرتبطان أيضاً بالتطوّرات التي تحدث حولها. ولعلّه خيراً أن يكون العرب في انتظار عودة مصر، من أن تكون الأمّة العربية كلّها في انتظار تقرير القوى الكبرى لمصيرها ومستقبلها.