لا تجد حكومة نتانياهو مصلحةً الآن في أيِّ حلٍّ سياسي مع الفلسطينيين، ولا أقطاب هذه الحكومة من الموقّعين أصلاً على الاتفاقيات التي تمّت مع "منظمة التحرير" عام 1993، ويعتبر نتانياهو (وما يمثّله عقائدياً وسياسياً في إسرائيل)، أنَّ الظروف الآن مناسبة لفرض أجندة إسرائيلية على المنطقة، هدفها الأساسي هو التشجيع على الصراعات الطائفية والإثنية..

وتكثيف الاستيطان، وإخضاع الفلسطينيين لمشيئة المحتلّ الإسرائيلي، وتحويل السلطة الفلسطينية إلى إدارة مدنية ترعى شؤون الخدمات، وتشكّل امتداداً أمنياً لإسرائيل وسط المناطق الفلسطينية، مع توطين الفلسطينيين خارج فلسطين.

وإذا كانت الأوضاع السائدة في المنطقة حالياً واضحةً جداً في كيفيّة خدمة المشروع الإسرائيلي، فإنَّ مقارنة حال الوضع الإسرائيلي مع الوضع العربي والفلسطيني، تجعل الرؤية أيضاً واضحة لكيفيّة الخروج من المأزق الذي تعانيه السلطة الفلسطينية الآن.

هناك تشرذم عربي عموماً، وفلسطيني على وجه الخصوص، ونجد إسرائيل تعتمد فقط على منطق "حق القوة"، مقابل اعتماد رسمي فلسطيني وعربي على منطق "قوّة الحق" فقط، بينما المنطق العملي الذي يؤكّده التاريخ يقول إنَّ "الحق بغير قوة هو حقٌّ ضائع"، وأنَّ "الجنوح للسلام" يعني أصلاً أنَّ الحقّ هو كالطير له جناحان: جناح العمل للسلام وجناح الاستعداد للحرب. فأين المنطقة العربية من هذا الجناح الأخير؟! وهل يكفي لتحقيق الحقّ التلويح فقط بأغصان الزيتون ومعظمها يابسٌ الآن؟!

الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة استفادت وتستفيد من الظروف الدولية والعربية والفلسطينية، على مدار عقود من الزمن إلى أقصى الحدود الممكنة، وهي تفرض شروطها ومطالبها على العالم ككل، فلِمَ انقلبت الأمور عربياً بعد حرب 1973 التي يُفترض أنّها كانت نصراً للعرب، عمّا كانت عليه بعد حرب 1967 التي تعتبر هزيمة للعرب؟!

فمِن شعاراتٍ حافظ عليها العرب بعد حرب 67: لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف بإسرائيل قبل انسحابها من الأراضي المحتلة عام 1967، إلى التسابق على الاعتراف والتفاوض والتطبيع مع إسرائيل، كما حدث بعد اتفاقيات كامب ديفيد، ثمّ بعد مؤتمر مدريد واتفاقيات "أوسلو"؟!

بعد حرب 1967، كان العرب يتحرّكون وفق استراتيجية شاملة وواضحة للتحرير، فيها الجمع بين العمل الدبلوماسي والاستعداد العسكري، بين قبول قرارات دولية وبين حرب استنزافٍ مفتوحة على الجهة المصرية وعمليات متعدّدة للمقاومة الفلسطينية.. أمّا في "الزمن الصهيوني" الراهن، فإنّ العجز الرسمي العربي وصل أقصاه، حيث لا بدائل عربية لمشاريع ومبادرات السلام، ولا استراتيجية شاملة واحدة، حتّى في الإطار الفلسطيني.

وإذا كانت المنطقة العربية عاجزة عن التحرّك إلى الأمام، فلِمَ استباحة التراجع إلى الوراء؟ ولِمَ لا يقف العجز الرسمي العربي والتنازل الرسمي الفلسطيني عند سقفٍ معيّن؟ لماذا لا تشترط السلطة الفلسطينية تنفيذ القرارات الدولية بشأن فلسطين قبل القبول باستئناف التفاوض مع إسرائيل؟ ولِمَ لا تحسم أمرها بإعلان أنّها أمام خيارين: التحوّل إلى إدارة مدنية تخدم إسرائيل وأمنها واحتلالها، أو الانتقال الفعلي إلى صيغة "جبهة تحرّر وطني" تجمع وسطها كل التيارات والقوى وفق استراتيجيةٍ واحدة؟!

حينما تتحوّل السلطة الفلسطينية إلى "جبهة تحرّر وطني"، فسيكون من واجبها - كما هو من حقّها - تحديد أساليب المقاومة وأمكنتها والجهات التي تقوم بها، لكي لا يحدث أي خلل سياسي أو أمني في الساحة الفلسطينية، ولمنع إسرائيل من استغلال أي عملياتٍ إحباطية فردية قد تسيء إلى معركة التحرّر الوطني الفلسطيني.

ألم تفعل ذلك حركة التحرّر الوطني في جنوب إفريقيا، التي كان قائدها نيلسون مانديلا في السجن لربع قرنٍ من الزمن؟ أليس ذلك أيضاً هو ما فعله المهاتما غاندي في الهند ضدّ الاحتلال البريطاني واضطراره للدخول إلى السجن أكثر من مرّة، حتّى حقّق النصر على الاحتلال البريطاني؟!

واقع الحال الآن أنَّ السلطة الفلسطينية تتصرّف وكأنّها دولة مستقلة ذات سيادة، بينما هي مؤسسات مستباحة يومياً تحت الاحتلال الإسرائيلي، والأجدر بها أنْ تتصرّف وكأنّها جبهة وطنية لمقاومة الاحتلال حتّى لا تصل إلى مستوى الإدارة المدنية للاحتلال.

إنّ التعنّت الإسرائيلي في رفض وقف بناء المستوطنات، لدلالةٌ كبيرة على مدى الضعف العربي الراهن، وعدم وجود تأثير عربي ضاغط على واشنطن، يوازي الضغوط الإسرائيلية القائمة على إدارة أوباما. فالأطراف العربية بمختلف مواقعها، جاهزةٌ الآن للدخول في تسوية شاملة مع إسرائيل، بينما هي غير مستعدّة للبديل المطلوب في حال عدم حصول التسوية.

الحكومات العربية الآن أمام مسؤولية تاريخية لكي تعيد النظر في خلافاتها وأوضاعها المزرية على أكثر من صعيد، وتجعل من الهمجية والعنجهية الإسرائيلية مدخلاً لتضامن عربي يفرض على إسرائيل التنازلات، ويعاقبها بالحدّ الأدنى سياسياً واقتصادياً، ويدفع الأطراف الفلسطينية إلى توحيد موقفها السياسي على قاعدة الجمع بين "حمل البندقية، وحمل غصن الزيتون"، وإلاّ فإنّ الخيار الآخر هو التسليم بما سيتمّ عليه التفاهم الأميركي/ الإسرائيلي، بلا أيّ وزنٍ عربيٍّ فاعل في ميزان صنع القرار الأميركي.

إنَّ واشنطن تضغط على العرب والفلسطينيين لكي يستمر أسلوب التفاوض مع إسرائيل، في ظلّ شرط التخلّي الكامل عن أسلوب المقاومة ضدّ الاحتلال، ودون أيِّ اعترافٍ أميركي بطبيعة الاحتلال الإسرائيلي الذي أقرّت شرائع الأمم المتحدة حقّ مقاومته. فواشنطن واضحة جداً في ما تطلبه وتريده من الفلسطينيين والعرب، لكنّها غامضةٌ جداً فيما تريده من إسرائيل. ولا يمكن اعتبار التباين الأميركي الإسرائيلي حول مسألة الاستيطان، على أنّه شرخٌ في العلاقات الأميركية الإسرائيلية، فالمسألة هي كيفية رؤية الاحتلال الإسرائيلي، وبالتالي رؤية أميركا لكيفية حقّ مقاومته.

أساس المشكلة هو الاحتلال الإسرائيلي، وليس فقط موضوع الاستيطان أو الإفراج عن أسرى.. وهو عدم حديث واشنطن عن مسؤولية الاحتلال الإسرائيلي، ورفضها الحديث عن حقّ مقاومته.. وأساس المشكلة الآن، أنَّ "منظمة التحرير الفلسطينية" أعطت لإسرائيل الكثير من التنازلات ولم تأخذ منها حتّى الاعتراف النهائي بها، فكيف بالاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني وإنهاء الاحتلال للأراضي الفلسطينية؟!

أساس المشكلة الآن هو ضعف الوضع الرسمي العربي، الذي يكتفي بالمبادرات السياسية دون أيّة خططٍ عملية لفرضها. ولكنّ على المجتمع الدولي أيضاً أن يقول: واشنطن، تتحدّثين عن أمور كثيرة لكن المطلوب واحد، وهو الضغط على تل أبيب لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي.