احتدام الأوضاع في أوكرانيا يعيد إلى الأذهان ما حدث في يوغسلافيا قبل حين، فأوجه التشابه في الحالتين ظاهرة في المكونات العرقية والدينية المتعددة، التي كان لها دور حاسم في معادلة الصراع العدمي بين المتقاتلين.

ويتساءل المرء أحياناً حول مدى تعافي القارة الأوروبية من مورثاتها الدينية والقومية، التي وصلت إلى ذروة التراجيديا في الحربين العالميتين، وهل ما زالت المكونات القومية والدينية تلعب دوراً محوريا في الصراعات البينية الأوروبية؟ وكيف يمكن تصنيف هذه الصراعات استناداً إلى مكوناتها الرئيسية الموروثة من التاريخ؟ وما هي التقاطعات المحتملة في الحالة الأوكرانية؟ وما هي الاحتمالات المستقبلية إذا ما تمدد صراع الإخوة الأعداء؟!

للإجابة النسبية، بل الافتراضية، على مثل هذه التساؤلات، لا مناص من تحديد الملامح العامة للموروثات القومية والدينية في القارة العجوز، وامتداداتهما المؤكدة في العمق الأوروآسيوي، وهنا سنجد أنفسنا أمام ثلاث دوائر إثنية ودينية واضحة الملامح.

تتمثَّل الدائرة الأولى في المكون الأرثوذوكسي السلافي، وفي القلب منه روسيا السلافية الأرثوذوكسية، ذات العمق الموازي في بلغاريا السلافية، ورومانيا الأرثوذوكسية، وبولندا السلافية، وصربيا السلافية أيضاً، مع ملاحظة أن المقاربة تتصل بالبُعدين الديني والقومي معاً.

فإذا كانت رومانيا أرثوذوكسية الدين، فإنها بالمعنى القومي لاتينية الهوى والهوية، وإذا كانت بولندا سلافية بالمعنى القومي، فإنها لاتينية الهوى بالمعنى الديني، فتخيلوا درجة تشابك وتعقيد الخارطة الدينية والقومية في أوروبا! وتنتظم في المكون الثاني للخارطة القومية الدينية الأوروبية، الأنجلوسكسونية البروتستانتية وامتداداتها في ألمانيا وبريطانيا والنمسا، فيما يضم المكون الثالث المنظومة اللاتينية الكاثوليكية، وتشمل إيطاليا وإسبانيا والبرتغال وفرنسا، علماً بأن هذا الحصر انتقائي جداً ولا يشمل الجميع.

وتستمد القارة الأميركية كامل الموروث الإثني والديني من أوروبا التاريخية، ففي كندا يتساكن المكونان اللاتيني الكاثوليكي، والأنجلوسكسوني البروتستانتي، وسنجد ذات الحال وبصورة أكثر فولكلورية في الدول الإسكندنافية متعددة الديانات والقوميات واللغات.

ويتكرر الحال في الولايات المتحدة أيضاً، حيث يتغوَّل النمط البروتستانتي الأنجليكاني المتحالف مع يهودية الآباء المؤسسين، فيما ينتشر ورثة اللاتينية الكاثوليكية في أميركا اللاتينية، ومن هنا جاءت تسميتها.

جدير بالاستعادة هنا أن الحرب الأهلية الأميركية، التي بدت في ظاهرها صراعاً بين انفصاليي الجنوب ووحدويي الشمال، وتخفَّت تحت عناوين وأوصاف متعددة.. حملت في عمقها الطبقي والديني السياسي، صراعاً محموماً بين الإقطاع الكاثوليكي في الجنوب، والبورجوازية المالية الصناعية البروتستانتية في الشمال. الخارطة الدينية القومية ليست معادلاً منطقياً للمستقبل بحال من الأحوال كما يزعم هانتنغتون، لكنها ما زالت تختزل ثقافة القوة والمُغالبة الموروثة من الماضي البعيد، والتي تجد لها تبريراً نظرياً في كثير من الأدبيات الدينية والفلسفية.

لكننا نعود إلى السؤال الهام الذي بدأنا به، وهو مدى تأثير هذه الموروثات القومية الدينية على السياسات العامة في واشنطن وموسكو ولندن، وغيرها من عواصم القرار الاستراتيجي في العالم المعاصر؟

وللوقوف على ملامح الإجابة، لا بأس من استقراء الحالة الأوكرانية، لكونها تمثل لحظة تصادم خطير بين تشكلات الموروث الاستيهامي المتناقض مع مصلحة الأوكرانيين ومستقبلهم، وتنذر بامتدادات أوروبية كتلك التي رأيناها في حرب البلقان، مع فارق جوهري يتمثَّل في الضعف الهيكلي الروسي على عهد الراحل يلتسن، وهو أمر ينعدم اليوم في ظل قيادة «القيصر» بوتين الباحث عن استعادة مجد روسيا الغابر، والقادر على مقارعة التحالف الأنجلوسكسوني الدولي، من خلال تحالف جديد يتخلق في أحشاء «الدب الروسي» و«التنين» الصيني.

وفي المقابل يحاذر ورثة اللاتينية الكاثوليكية من الوقوع في مصيدة الصراع السلافي الإنجيلكاني، لشعورهم بالمسافة التي تصل وتفصل بينهم وبين التحالف البروتستانتي الإنجيلكاني المسيج بالروح الأنجلوسكسونية من جهة، والتحالف السلافي الأرثوذوكسي المُدجج بالحراب القومية من جهة أخرى.

وبهذا المعنى تتحول فرنسا وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال، إلى معادل منطقي حكيم للصراع المستتر بين قطبي الشرق والغرب.. وتحديداً روسيا والولايات المتحدة. ذلك ما تجلَّى واضحاً بعيد انهيار الاتحاد السوفييتي، حينما تبنَّت فرنسا ومعها الصين، مشروع عالم جديد متعدد الأقطاب، كما يظهر الآن من خلال ارتباك المواقف الأوروبية تجاه ما يجري في منطقة القرم.

والحالة الأوكرانية تعكس الموديل الأوروبي التاريخي بامتياز، فأوكرانيا تتوزع بين القوميتين السلافيتين الروسية والأوكرانية، وتضم أقليات متعددة الجذور قومياً ودينياً، فيما تنعكس خارطتها الديمغرافية على دول الجوار الإقليمي، غير القادرة على تحديد موقف واضح مما يجري هناك، لعلمها التام بأن نبش وكر الدبور القومي الديني في أوكرانيا، سيفتح عليها أبواب جهنم.

وتعيش منطقة القرم تناقضاً قومياً مُعلناً بين الأوكران ذوي الأصول الروسية البطريركية، والأوكران المقيمين في الاستدعاءات القومية للأقحاح الشوفينيين، الواهمين بامتلاك خصوصية لا يرقى إليها الآخرون، وهو الأمر الذي خلق نزعة مُتعصِّبة فجَّة، ترى الآخر بوصفه عدواً مُبِيناً، وتتغذى من دوائر اليمين البراغماتي النيتشوي المتوحش.. وإذا استمرت المعادلة الأوكرانية وفق السائد اليوم، فإن متوالية الصراع القومي الديني لن تتوقف عند حدود تلك البلاد، بل ستشمل عموم أوروبا، بقدر تزايد العنف وخروج الميدان عن نطاق السيطرة.

يدرك حكماء أوروبا والعالم فداحة المآلات المحتملة، لكن رهان بعض الكبار على تدوير صراع محدود ومحدد قد ينقلب عليهم، حينما يتيقَّنون أن تلك الشرارة كفيلة بإحراق قارة بأسرها.. وليست عبرة الحربين العالميتين بعيدة عن كل ذي لُبٍّ وبصيرة.