ليس من الواضح بعد كيف سيكون المخرج السياسي المناسب لكلٍّ من موسكو وواشنطن ودول الاتحاد الأوروبي، لإعادة العلاقات الطبيعية بين «الغرب» و«الشرق»، عقب التأزّم الذي حصل بسبب الأزمة الأوكرانية، لكن بدأت تظهر علاماتٌ إيجابية عقب تصريحات الرئيس الروسي بوتين عشيّة انتخابات الرئاسة في أوكرانيا.
والتي انتهت بفوز بترو بوروشينكو، ثمّ بتأكيد لافروف وزير الخارجية الروسي على أنّ روسيا ستحترم إرادة الشعب الأوكراني، وأنّها مستعدّة للحوار مع الرئيس الجديد، الذي بادر هو أيضاً إلى إظهار الاستعداد للتفاوض المباشر مع القيادة الروسية.
هذا التطوّر السياسي الحاصل على صعيد الأزمة الأوكرانية، مهمٌّ جداً الآن لقضايا وأزمات دولية أخرى. فأوباما وبوتين أكّدا في تصريحاتٍ سابقة رفضهما وصْف الأزمة القائمة بين بلديهما، بأنّها عودةٌ إلى «الحرب الباردة» بين القطبين، وهما يدركان حاجة كلّ طرفٍ للآخر في عدّة مسائل سياسية واقتصادية وأمنية.
موسكو وواشنطن معنيّتان ليس فقط بمستقبل العلاقات بينهما أو بمستقبل أوكرانيا وأوروبا، بل أيضاً بمصير انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان وما ستكون عليه أوضاعها بعد ذلك. وهما أيضاً بحاجةٍ للتنسيق بشأن مستقبل العلاقات الغربية مع إيران، بعد استحقاق يوليو المقبل، وهو الموعد المحدّد لنهاية تفاوض القوى الكبرى مع طهران حول ملفّها النووي.
وسيبقى الملف السوري ساخناً على الأرض الآن، في انتظار نتائج هذه التطوّرات في العلاقات الأميركية/ الروسية والأميركية/ الإيرانية. وسيكون سبتمبر المقبل هو الحدّ الزمني الذي ستتّضح فيه معالم ما سيتمّ إعداده خلال الصيف، من مشاريع تسويات وحلول لأزماتٍ عديدة.
على المستوى المحلي العربي، فإنّ نجاح مصر في تثبيت القواعد الدستورية للحياة السياسية فيها، وإنجاز انتخابات الرئاسة بعد إقرار الدستور العام سابقاً، ستكون كلّها خطوات مهمّة جداً لاستعادة دور مصر الإقليمي والعربي في مرحلة صناعة التسويات السياسية لأزمات المنطقة، ولترتيب العلاقات العربية مع دول الجوار الإقليمي.
وربّما تكون القاهرة هي المكان الذي سيشهد اجتماعاتٍ دولية وإقليمية، لاستكمال الجهود التي بدأت في جنيف من أجل تسوية سياسية للأزمة الدموية في سوريا، وكذلك للتعامل مع الملف الفلسطيني بأسلوبٍ مختلف عن المفاوضات الثنائية التي رعتها واشنطن في الأشهر الماضية. وهناك مؤشّراتٌ أيضاً على جاهزية مصر للمساعدة في إعادة الاستقرار السياسي والأمني في ليبيا، بعدما هيمنت الفوضى والميليشيات على مناطقها المختلفة.
إنّ الأمّة العربية كلّها تحتاج الآن بشدّة لإعادة الحيوية النابضة في قلبها المصري، في ظلّ أوضاعٍ عربية سارت في العقود الأربعة الماضية من سيئ إلى أسوأ، ومن هيمنة غير مباشرة لأطراف دولية وإقليمية إلى تدخّل مباشر في بلدان الأمّة، لذلك فالعرب كلّهم أملٌ الآن في أن تعود مصر لدورها الريادي العربي، وأن تستقرّ أوضاعها الأمنية والسياسية والاقتصادية.
ففي غياب دور مصر جرى إشعال شرارات حروبٍ أهلية عربية في أكثر من مكان، وتفجير الصراعات الطائفية والمذهبية والإثنية، وتمّ تقسيم السودان وفصل جنوبه المختلف دينياً وإثنياً عن شماله..
كما تمّ تحريف مسارات الحراك الشعبي العربي الذي بدأ بتونس ومصر مستقلاً، لكن وجدناه يمتزج في دولٍ عربية أخرى مع تأثيرات وأجندات إقليمية ودولية مختلفة، أراد بعضها توظيف هذه الانتفاضات الشعبية العربية لتغيير سياسات وخرائط أوطان، وليس حكومات وأنظمة فقط.
وقد رافق هذه الأحداث والصراعات على الأرض العربية، نموّ متصاعد لجماعات التطرّف المسلّحة، التي استغلت حالات الفوضى والعنف لكي تمتدّ وتنتشر، حتى وصلت إلى معظم الأرجاء العربية، بينما كانت إسرائيل تستغل كل هذه التداعيات العربية لمواصلة الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، مراهنةً على تحوّل الصراع الأساس في المنطقة من صراع عربي/ إسرائيلي إلى صراعاتٍ عربية/ عربية، وعربية/ إقليمية، وعلى تقسيمات طائفية ومذهبية تبرّر أيضاً الاعتراف بإسرائيل كدولةٍ يهودية.
لكن متغيّرات دولية وإقليمية بدأت تحدث الآن، مع توقيع الدول الكبرى اتفاقاً مع إيران بشأن ملفّها النووي، وخاصّةً بعد التصريحات الإيجابية التي خرجت من الرياض وطهران بشأن العلاقات الثنائية بينهما، وما يمكن أن يتركه ذلك من انعكاساتٍ إيجابية على استقرار المنطقة.
وهناك ارتفاع دولي مشترك لمنسوب المخاوف من تفاعلاتٍ ما يحدث على الأرض السورية، إن كان لجهة زيادة دور وعدد الجماعات المتطرّفة المحسوبة اسمياً على «جماعات القاعدة»، أو لمحاذير امتداد الصراعات المسلّحة إلى دول مجاورة لسوريا.
فخيار التسويات السياسية، وليس المزيد من التصعيد العسكري، هو المرغوب حالياً من قبل الأقطاب الدولية، حتّى لو كانت هناك عقبات أو «معارضات» لهذه التسويات على مستوياتٍ محلية وإقليمية. لكن هذه التسويات الدولية الممكنة لأزماتٍ في المنطقة ومحيطها، هي مراهناتٌ عربية جديدة على «الخارج» لحلّ أزماتٍ مشكلتها الأساس هي ضعف «الداخل» العربي وتشرذمه.
فأيُّ حلٍّ يرجوه العرب لصالحهم، إذا سارت التفاهمات الدولية والإقليمية تبعاً لمصالح الأطراف غير العربية، بينما العرب منشغلون حتّى الآن في أوضاعهم الداخلية، ومنقسمون ومتصارعون حول قضايا عربية وإقليمية ودولية؟!
ومهما حدث على الصعيدين الدولي والإقليمي، فإنّ السؤال يبقى: كيف سيكون هناك مستقبلٌ أفضل للشعوب والأوطان، وللأمّة ككل، إذا كان العرب مستهلَكين بأمورٍ تُفرّق ولا تجمع؟!