في العراق، كما في سوريا، وكما كان في لبنان خلال حقبة الحرب الأهلية، صراع مسلّح على السلطة. وهو صراع سياسي محلّي إقليمي دولي حتماً، مهما حاول البعض تغليفه ببراقع طائفية ومذهبية، أو صبغه بألوان أيديولوجية دينية مختلفة.

هو صراع محلّي تدعمه وتوظّفه قوى خارجية، وهو صراع ممزوج مع خطايا حكومات ومعارضات، ومع تراث تاريخي من مفاهيم وممارسات انقسامية خاطئة، توظّفها القوى المحلّية والخارجية المتصارعة، وهو أيضاً صراع القوى الخارجية الطامعة بالوصاية والهيمنة على مواقع وثروات الأرض العربية.

فتدهور الأوضاع السياسية والأمنية في العراق ومنطقة المشرق العربي، هو محصّلة لسياسة أميركية مارست العدوان والاحتلال في العراق، وهدّمت مؤسساته الوطنية، ودعمت الاحتلال والعدوان الإسرائيلي، فكان من تداعيات هذه السياسة الفاشلة والظالمة، ما نراه اليوم من مخاطر أمنية وسياسية في عموم المنطقة.

لكن ليس العامل الأميركي السلبي هو الوحيد المشترك بين أزمات المنطقة، ففي هذه الأزمات جذور عميقة لسلبيات داخلية، تتحمّل مسؤوليتها حكومات محلية وأطراف عربية وإقليمية عديدة، بل إنّ هذه الجذور السلبية الداخلية كانت هي، أكثر من مرّة، الحافز للتدخّل الأجنبي.

كما في حمل رايات فكرية وسياسية لها سمات طائفية ومذهبية، حيث النجاح في المواجهة مع المحتل والأجنبي، يرافقه تعثّر في مواجهة الأهداف السياسية لتلك القوى الخارجية، التي عملت وتعمل على تمزيق الشعب الواحد وتفريقه لتسهّل السيادة عليه، حتى لو تطلّب الأمر إشعالاً لحروب أهلية. إنّ أساس الخلل الراهن في الأمَّة العربية كلّها، هو في فشل المفكّرين والسياسيين وعلماء الدين في الحفاظ على الظاهرة الصحية، بالتعدّد الطائفي والمذهبي والإثني في مجتمعاتهم.

حيث أصبح معظم الأفكار والممارسات يصبّ في أطر فئوية موجّهة كالسهام ضدّ الآخر في ربوع الوطن الواحد. فالتعدّدية كانت قائمة في البلاد العربية خلال القرن الماضي، لكنّها لم تكن حاجزاً بين الشعوب، ولا مانعاً دون خوض مشترَك لمعارك التحرّر والاستقلال الوطني، بل كانت مفخرة معارك التحرّر آنذاك، أنّها تميّزت بطابع وطني عام صبغ القائمين بها، فكانت فعلاً مجسّدة لتسمية «حركات تحرّر وطني».

اليوم، نتعايش مع إعلام عربي، ومع طروحات فكرية وسياسية لا تخجل من توزيع العرب على طوائف ومذاهب وأقليات، بحيث أصبحت الهويّة الوطنية الواحدة غاية منشودة، بعدما جرى التخلّي المخزي عن الهويّة العربية المشتركة. هو انحطاط وانقسام حاصل الآن، بعدما استباحت القوى الأجنبية (الدولية والإقليمية).

وبعض الأطراف العربية، استخدام السلاح الطائفي والمذهبي والإثني في حروبها وصراعاتها متعدّدة الأمكنة والأزمنة خلال العقود الثلاثة الماضية. وقد ساهمت في ترسيخ هذا الواقع الانقسامي الأهلي على المستوى الشعبي العربي، هيمنة الحركات السياسية ذات الشعارات الدينية.

وضعف الحركات السياسية ذات الطابع الوطني أو العربي التوحيدي. إنّ المنطقة العربية تتآكل من الداخل، بينما هي تؤكل من الخارج، والعرب الآن بلا قضية واحدة، وبلا قيادة جامعة. فالشعب الذي لا تجمعه قضية وطنية واحدة، أو رؤية مستقبلية مشتركة، يعيش أسير صراعات الداخل التي تعزّز تدخّل الخارج، وفي ظلّ هذا الواقع، تتخبّط الأفكار والتجارب والأوطان.

إنَّ الكثير من الحكومات العربية يعطي الأولوية الآن لاستمرارية الحاكم في الحكم، لا لاستمرارية الوطن نفسه. والكثير من المعارضات العربية يعطي الأولوية الآن للتغيير في الحكم بأي ثمنٍ، لا التغيير السلمي في المجتمعات التي تتوارث فيها الأجيال مفاهيم خاطئة عن النّفس وعن الآخر، وفي ظلِّ غياب واضح لطروحات وطنية عروبية ديمقراطية، تجذب الشباب العربي، وتحوّل طاقاتهم إلى قوّة تجمع ولا تفرّق، تصون وحدة الأوطان ولا تمزّقها.

وقد أصبح طلب التدخّل الأجنبي حلالاً ومشروعاً في أكثر من بلد عربي لحلّ مشاكل عربية داخلية، والتنبيه إلى ما هو حاصل من تآمر أجنبي وإسرائيلي على أوطان العرب وثرواتهم ووحدة بلدانهم وشعوبهم، أصبح لدى بعض «الثوار العرب» من المحرّمات السياسية! وحينما نسأل ويسأل غيرنا من يقود هذا الحراك الشعبي أو تلك الثورة؟

تكون الإجابة، هو «الشارع» و«الشعب»، دون اسم أو عنوان أو برنامج فكريٍّ أو سياسي! إذن، إلى أيِّ منقلَب نحن منقلبون؟ وكيف يتمّ أخذ هذه الأوطان إلى مصير مجهول، منطلقه غير معروف، وأرضه مليئة بألغام الانقسامات الطائفية والإثنية؟!

صحيحٌ أنّ الحكومات العربية هي المسؤولة أولاً وأخيراً عمّا وصلنا إليه الآن من حال، لكنَّ ذلك لا يشفع لقوى المعارضة العربية ألا تقوم هي أيضاً بمسؤولياتها في الحفاظ على وحدة الأوطان والشعوب، بل إنّ هذه القوى هي الطرف الأساس المعنيُّ بذلك. فالأولويّة الآن هي لبقاء وحدة الأوطان، ولعدم الجمع بين شعار «إمّا الحاكم أو الفوضى»، مع ممارسات معارضة تؤدي إلى «إمّا الديمقراطية أو التقسيم».

فأين «أمُّ الصبي» في كلّ ما يحدث؟ ولِمَ لا يكون التركيز الآن على تحقيق إصلاحات جدّية دستورية وسياسية واقتصادية، تُمهّد لتغيير شامل في المجتمعات، لا في الأنظمة والحكومات فحسب؟ لقد تعرّضت أمم كثيرة خلال القرن الماضي إلى شيء من الأزمات التي تواجه الآن العرب، كقضايا سوء الحكم، وما فيه من استبداد وفساد، وما ينتج عن ذلك من مشاكل التخلّف الاجتماعي والاقتصادي، وغياب للحرّيات العامّة، وما واجهته أمم أخرى من احتلال أجنبي وتدخّل خارجي..

لكن من الصعب أن نجد أمّةً معاصرة امتزجت فيها معاً كلّ هذه التحدّيات، كما هو حاصل الآن على امتداد الأرض العربية. فخليط الأزمات يؤدّي إلى تيهٍ في الأولويات، وتشتّت القوى والجهود، وإلى صراع الإرادات المحلية تبعاً للتحالفات الإقليمية والدولية. لكن، أهي صدفةٌ أن تتزامن كل تلك التحدّيات على الأمّة العربية، مع ارتفاع التعبئة الطائفية والمذهبية والإثنية في غالبية البلاد العربية؟!