لم يكن المفكر الجزائري الراحل محمد أركون صادراً عن فراغ الاستيهام الذاتي، وهو يتحدث دوماً عن الثقافة العربية من منظور انتربولوجي، ذلك المنظور الذي يرى الثقافة بتكاملها، لا بمعناها النمطي الإجرائي المُجيَّر على الثقافة العالمة النُّخبوية، ومن هنا، كان أركون يعتدُّ بهذا الجانب، باعتبار أن المنظور الإنثربولوجي للثقافة يتَّصل بثقافة اللسان، كما بالسيكولوجيا الاجتماعية الصادرة عن التاريخ والبيئة، وكذا بالجوانب النفسية والاجتماعية متعددة الآثار والمناحي في الثقافة الخاصة لشعب من الشعوب.
ولم يكن محمد أركون وحيد ذاته في هذا الميدان، لكنه على المستوى العربي كان مشهوداً له بهذا المبحث الهام في تشخيص الحالة العربية، بالمعنى الإبستمولوجي غير المنغمس في العاطفة والوجدان.
وإذا رجعنا إلى مباحث كبار علماء فلسفة التاريخ، وفي الأساس منهم الماديون الجدليون، سنرى أن هذا البحث الثقافي شكل المقدمة الحاسمة في كثير من استنتاجاتهم المترابطة مع البنى السياسية والاجتماعية التاريخية، ولعل الكتاب العبقري للفيلسوف المادي الجدلي فريدريك إنجلز يرينا درجة الاعتماد الجوهري على البحث الإنثربولوجي، ذلك أن إنجلز اعتمد في استنتاجاته حول أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة على المباحث السابقة لعلماء الإنثربولوجيا.
ما يهمنا في هذا التمهيد، هو الوقوف على المعنى الجوهري لقراءة الثقافة في أُفق يتَّسع لما وراء الآكام والهضاب، وهذا سيعني حتماً استعادة الموديلات، والمناهج الفكرية، والنزعات الإيديولوجية، التي انتقلت من أوروبا إلى العالم العربي، ولكن دون التعاطي معها بنفس المنطق الأوروبي ذي النزعة البرهانية البراغماتية، بل بطريقة غنائية وجدانية مُتطيِّرة.
وسنبدأ بالتيار القومي العربي بأشكاله الحركية والناصرية والبعثية، والتي تاقت بجملتها إلى بلورة مشروع قومي عربي يتأسَّى بالنماذج القومية الأوروبية من جهة، كما يجد المبررات التاريخية والجغرافية والثقافية من خلال استعادة الماضي العربي من جهة أُخرى.
وذلك كان جهداً مشكوراً من قبل المُفكِّرين المُنظِّرين الحالمين بألفية عربية جديدة، أمثال نديم البيطار وميشيل عفلق وساطع الحصري، وكذا منظري الناصرية القومية على عهد الزعيم الراحل جمال عبد الناصر وبعد وفاته، وسنكتشف أن التمثُّل العملي العربي لتلك الأفكار كان بعيداً كل البُعد عن النمط القومي الأوروبي، كما أنها اكتست نمطاً ثقافياً تاريخياً عربياً بامتياز، فكانت رديفة المركزية الثيوقراطية الفريدة في تجارب البعث السوري والعراقي، والنزعة الوجدانية الغنائية الحالمة في الحالة الناصرية، والنزعة الفتية المنفلتة في التطبيق الوحيد الفريد في جنوبي اليمن قبل وحدة شطريه الشمالي والجنوبي.
وإذا انتقلنا إلى النماذج التي تاقت لاستدعاء النمط اليساري الدولي، سنكتشف أن جل الأحزاب اليسارية العربية وقعت في مصيدة الاستالينية الجامدة، مع بعض الاختلافات النسبية في التجربتين السودانية واليمنية، وكان النموذج اليساري العربي الوحيد في مؤسسة الحكم العربي، متمثلاً بجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية..
لكن تلك الأفكار الطوباوية الحالمة بمجتمع ألفي فاضل، لم تتمكن من تجاوز منطق القبيلة والعصبية التي كانت سبباً في انهيار التجربة، إثر أحداث 13 يناير 1986 الدموية. هنا، نستطيع القول إن المُكوِّن الثقافي التاريخي في العالم العربي، كان يقف بالمرصاد لمحاولات الاستنساخ العقيمة، سواء على مستوى الأفكار القومية أو اليسارية، فالأصل في ما ساد وما زال قائماً في العالم العربي، هو درجة عالية من التماس الكهربائي مع ثقافة الماضي التليد..
تلك التي وصفها ابن خلدون بروحية الرائي الناظر لما يتجاوز الظاهر، ووصفها بالثقافة العصبية القادرة على تدمير الدول، وإعادة إنتاج ذات المتاهة التاريخية، كما لو أنها جبرٌ لا مفر منه.
ما جرى على خط النماذج القومية واليسارية، ينطبق أيضاً على الاتجاهات الليبرالية التي سرعان ما خَبتْ وانطفأتْ، بالترادف مع سلسلة الانقلابات العسكرية التي طالت شرق وغرب العالم العربي، وحوَّلت الأحزاب والمكونات السياسية للتعددية الافتراضية، إلى مجرد ديكورات لتجميل الأنظمة العسكرية الأوليغاركية (التراتبية).
حدث هذا في مصر، والجزائر، واليمن، والصومال، والسودان، وليبيا، وكامل الأنظمة العربية التي قدمت نفسها بوصفها جمهوريات مغايرة للحاكميات الملكية والسلطانية التاريخية، لكنها تكشَّفت تباعاً عن جمهوريات أوتوقراطية بامتياز، فضاعت الأحلام الطوباوية القومية واليسارية في غياهب التحولات التراجيدية، كما انطفأت شعلة الليبراليات البرلمانية التي كانت قبل الانقلابات العسكرية.
وخلال العقدين الماضيين، زعم العديد من الأنظمة العربية الأخذ بنموذج التعددية السياسية، والنمط اللا مركزي في الإدارة والتسيير، لكن هذه المزاعم سرعان ما ظهرت على حقيقتها، فالحاصل أن كامل النماذج والأنماط المُعلنة يتم تفصيلها على مقاسات الحال، ما يدل دلالة قاطعة على أن الحامل الثقافي التاريخي الإنثربولوجي، يضعنا في مربع الحقيقية السافرة التي قال بها علماء التاريخ والجغرافيا المكانية، ذات الصلة بطبائع البشر.
لقد أثبت التاريخ القريب أن لنا ليبراليتنا الخاصة، ويساريتنا المُفصَّلة على مقاسات القبيلة والعشيرة، ومنهجنا القومي الذي يعيدنا إلى مرابع عبس وذبيان، واستيهاماتنا الدينية السياسية التي تضعنا في اشتباك عسير مع الذات، والتاريخ، والآخر الإنساني.. ولا مركزياتنا التي يتمَنْطقها حَمَلة السلاح والمال الفاجر، وأحلامنا الوردية التي سرعان ما تتكسَّر أمام جحافل الأشاوس القادمين من ظلامات الماضي، ومن أعماق ثقافة لا تقبل بما دون الأنا المستبدة الطاغية.
هذه ليست بكائية على طلول قد تهاوت، بل هي نمط شاخص في سيرتنا السياسية والحياتية، والشاهد على ذلك ما نراه اليوم من بؤس شامل، بشمول الجغرافيا العربية وامتداداتها الإقليمية الواسعة.