في ذروة الاستتباعات القاهرة للنظام العربي السائد، قامت المؤسسة العسكرية الموريتانية بانقلاب مبرر على النظام السياسي، الذي كان آنئذ يمثل نمط النظام العربي غير الناظر لأهمية التنمية والتطوير والإصلاح. وكان العنوان اللافت للإصلاح الموعود من قبل العسكريين، يتضمَّن الانتقال إلى نظام تعددي برلماني يجيز التداول السلمي للسلطة.

وفي ظل تغوُّل النزعة التوتاليتارية في كامل الإقليم المجاور، كانت المهمة صعبة وشاقة، قياساً بالمورث الثقافي السياسي والمُغالبة الإجرائية العسيرة للسائد العربي، غير أن الموريتانيين امتشقوا حسام المجد، وساروا قدماً في مشروع الإصلاح الذي وعدت به النخبة السياسية العسكرية.. نادرة المثال في العالم العربي.

وتضمن مشروع الإصلاح توسيع قاعدة المشاركة، بانتهاج درب ديمقراطي يتناسب مع موريتانيا بخصوصيتها المخصوصة، ودونما تخلٍ عن مبدأ المواطنة القانونية بوصفها المعيار الأسمى للهوية والمشاركة. يومها سخَر بعض سدَنة النظام الرسمي العربي من ذلك الإصلاح الموعود، الذي سيأتينا من موريتانيا البعيدة الصغيرة، مُتناسين أن التاريخ أثبت أن أكثر المآثر أهمية قد تأتي من حيث لا نحتسب.

ولا أظن أن نموذج دولة الإمارات العربية المتحدة بعيد عن إدراك العقلاء، الذين يجدون جواباً ناجزاً لسؤال المستقبل في دولة عربية خليجية يعتبرونها صغيرة، لكنها كبيرة بحجم منجزاتها وحضورها الممتد من الماء إلى الماء، ودونما جعجعة وصخب.

لكن النظام العربي الرسمي السائد يومها، تعاطى مع التغيير في موريتانيا بقدر كبير من الاستخفاف المقرون بالتشكيك، حتى أن حفل تنصيب الرئيس علي ولد محمد فال، لفت النظر فيه غياب أغلب حكام العرب، في إشارة ضمنية لعدم قبول المتغير الموريتاني. لقد استذكرت في تلك المناسبة ما قاله الحكيم الموريتاني القدَري »ولد مُتَّالي«، ليؤكد معنى الاتساق مع قانون التاريخ الجَبري الإلهي:

المرء في الظاهر ذو اختيار والجبـــر باطنـــاً عليـه جار

                                            وكان من عجــائب الجبَّـــار أن يُجبـر العبــدَ بالاختيـــار

هذا ما فعلته موريتانيا قبل سنين من عاصفة المتغير الزلزالي في المنطقة العربية، وهكذا أثبتت أن بوسعنا القيام بالإصلاح الضروري إذا سادت الحكمة والرويَّة وحسن الطويَّة، والتخلَّي عن ثقافة الاستئثار القاتل بالسلطة والثروة، والقبض على جمر الحقيقة الأزلية القائلة بأن نظاماً لا يخدم شعبه لا يمكنه البقاء، مهما تدثَّر بأدوات الترغيب والترهيب. الربيع الموريتاني كان وما زال بهياً بحق، وقد أثبت للمُتشككين النمطيين أن جواب المستقبل العربي قد يأتينا من حيث لا نحتسب ونتوقَّع.

وقد رأينا أن المغرب العربي بجملته يمثل حالة رشد ظاهر، ولكي نتلمَّس هذه الحقيقة يمكننا قراءة التطورات الإيجابية في موريتانيا، ثم الجزائر التي تمكَّنت من تنفيس الاحتقان المجتمعي من خلال برنامج مصالحة وطنية بعيدة المدى.

كما رأينا أن المغرب سار قدماً في انتهاج نمط رشيد من الَّلا مركزية في الإدارة والتسيير، وأقرَّ الحقوق الثقافية المتكافئة لمواطنيه العرب والأمازيغ، وخطى خطوات إلى الأمام نحو المشاركة والشفافية.

وتأتي التجربة التونسية لما بعد العاصفة الزلزالية في المنطقة العربية، التي ما زالت تقدم النموذج الأفضل في متوالية ما بعد الزلزال. وقديما كان المشارقة العرب ينتقدون النزعة العقلية عند ابن رشد، ويتهمونه بالتفلْسُف الذي يؤدي إلى الزندقة، لكن أوروبا الرُّشدية اعتبرتْ من أقواله الرائية لمعنى العلاقة بين الحكمة والشريعة، ورأت في تلك الأقوال مقاصد تنتمي إلى عالم الفضيلة، ومن هنا جاء التفسير اللوثري الأول لمعنى الاتصال بين الدين والحياة.

وبعد مرور قرون من العهد الرشدي الاستثناء، ظل المشرق العربي غنائياً وجدانياً، فيما بقيت بذور النزعة العقلية البراغماتية واضحة المعالم في المغرب العربي. ولا بأس من الإشارة هنا إلى اتهامنا القديم للرئيس التونسي الحبيب بورقيبة بالتواطؤ مع العدو الصهيوني، لمجرد أنه نصح العرب بقبول القرار الأممي الخاص بتقسيم فلسطين بعد النكبة.. ولا داعي للقول إننا بعد ذلك خسرنا كل فلسطين، وشبه جزيرة سيناء، وكان علينا أن نخوض صراعاً عسكرياً وسياسياً مريراً لاستعادة سيناء وحدها.

إذا كان الرئيس الموريتاني الأسبق علي ولد محمد فال قدَّم مأثرة مبكرة في المؤسستين العسكرية والسياسية العربية، فإننا اليوم إزاء منجز انتخابي جديد يرينا ما وصلت إليه موريتانيا من رشاد يفتح الباب لمزيد من متواليات الإصلاح الشامل. وبالتوافق مع كل ذلك ارتفع خطاب الوحدة الوطنية الموريتانية العابرة للمكونات العرقية، والذي سيكون له أثره المؤكد على الجهاز المفاهيمي للشعب الموريتاني الذي جمع الحُسنيين، وفاض بتعدد الثقافات، وكان وما زال مرجعاً للثقافة العربية الإسلامية الصافية.

ها نحن إذاَ ننْعَمُ بجواب موريتاني لسؤال الحالتين المقرونتين بالوجود والوعي في المنطقة العربية، ومن المفيد جداً أن نستفيد من تجارب المغرب العربي الكبير، ابتداءً من السَّبق الموريتاني، وحتى الطموح التونسي المُتقدم في زمن التغيير الجبري.