كم هو مؤسفٌ هذا المزيج اليومي من الأخبار القادمة من العراق وسوريا وفلسطين، حيث الضّحايا هم خليطٌ من ممارسات الاحتلال في الجانب الفلسطيني، ومن الصّراعات الفئويّة المحليّة والإقليمية في الجانب الآخر!
وفي الحالتين، هناك إرهاب يُمارس على المدنيين الأبرياء، بعضه من احتلال استيطاني ظالم، وبعضه الآخر أصبح متمثّلاً بجماعاتٍ تستغّل أسماء دينية إسلامية، بينما هي في الواقع تخدم المشاريع الصهيونية والأجنبية، الساعية إلى تقسيم وتفتيت البلاد العربية إلى دويلات مذهبية وإثنية.
إنّ الحروب الأهليّة هي طاحونة الأوطان في كلِّ زمانٍ ومكان، وها هي المجتمعات العربيّة أمام تحدٍّ خطير يستهدف كل من وما فيها. هو امتحانٌ جدّي لفعل المواطنة في كلّ بلدٍ عربي، إذ لا يمكن أن يقوم وطنٌ واحد على تعدّدية مفاهيم المواطنة، وحينما تسقط المواطنة في الامتحان يسقط الوطن بأسره.
وما يحدث حاليّاً في عددٍ من البلدان العربيّة هو امتحان جدّي وصعب لهذه الأوطان، من حيث قدرتها على التّعامل مع الشروخ والانقسامات التي تنتشر كالوباء في جسمها الواهن.
صحيحٌ أنّ هناك قوًى خارجيّة تعمل على تأجيج الصّراعات الدّاخليّة العربيّة، وأنّ هناك مصلحة أجنبيّة وإسرائيليّة في تفكيك المجتمعات العربيّة، لكن العطب أساساً في الأوضاع الدّاخليّة التي تسمح بهذا التدخّل الخارجي.
فالبلاد العربيّة لا تختلف عن المجتمعات المعاصرة من حيث تركيبتها القائمة على التعدّديّة في العقائد الدينيّة والأصول الإثنيّة وعلى وجود صراعات سياسيّة محليّة، لكن ما يميّز الحالة العربيّة هو حجم التصدّع الداخلي في أمّةٍ تختلف عن غيرها من الأمم بأنّها أرض الرّسالات السماويّة، وأرض الثّروات الطّبيعيّة، وأرض الموقع الجغرافي الهام. وهذه الميزات الثلاث كافية لتجعل القوى الأجنبيّة تطمح دائماً للاستيلاء على هذه الأرض، أو التحكّم فيها والسّيطرة على مقدّراتها.
وقد كان طبيعيا أن تمارس القوى الأجنبيّة الطامعة في الأرض العربيّة، سياسة »فرّق تسد«، وأن تفكّك الأمّة إلى كياناتٍ متصارعة في ما بينها وداخل كلٍّ منها، لكن هل يجوز إلقاء المسؤوليّة فقط على »الآخر« الأجنبي في ما حدث ويحدث في بلاد العرب من فتن وصراعات طائفيّة وعرقيّة؟! إنّ غياب الولاء الوطني الصحيح في معظم البلاد العربيّة، مردّه ضعف مفهوم الانتماء للوطن وسيادة الانتماءات الفئويّة. ويحصل الضّعف عادةً في الولاء الوطني حينما تنعدم المساواة بين المواطنين في الحقوق السّياسية والاجتماعيّة، ولا تكون هناك مساواة أمام القانون في المجتمع الواحد.
وغياب الفهم الصحيح للدّين والفقه المذهبي وللعلاقة مع الآخر أيّاً كان، هو البيئة المناسبة لأي صراع طائفي أو عرقي يُحوّل ما هو إيجابي قائم على الاختلاف والتنوّع والتّعدّد، إلى عنفٍ دموي يُناقض جوهر الرّسالات السّماويّة والحكمة أصلاً من وجودها على الأرض! ولعلّ أسوأ ما في الواقع العربي الرّاهن هو حال التمزّق على المستويات كلها، بما فيها القضايا التي لا يجوز أصلاً الفصل بينها.
فشعار الديمقراطيّة أصبح نقيضاً لشعار التحرّر الوطني، أو العكس! والولاء للوطن أصبح يعني تنكّراً للعروبة وللعمل العربي المشترك! والاهتمام بالشؤون الدينيّة أصبح مدخلاً للانقسامات والصراعات والخطر على الوحدة الوطنيّة!
ويرافق هذا الحال من التمزّق في القضايا والأهداف، رؤى خاطئة عن »المثقّفين العرب« من حيث تعريفهم أو تحديد دورهم. فهذه الرؤى تفترض أن »المثقّفين العرب« جماعة واحدة ذات رؤية موحدة، بينما هم في حقيقة الأمر جماعات متعدّدة برؤى فكرية وسياسية مختلفة، قد تبلغ حدّ التعارض والتناقض. وتوزيع دور هذه الجماعات لا يصحّ على أساس جغرافي أو إقليمي، فالتنوع بينها حاصلٌ على معايير فكرية وسياسية.
ولنكن صريحين في وصف الواقع، فالضعف الآن أيضاً في فئة »المثقّفين« المعتقدين فعلاً بالهويّة العربيّة، والرافضين فكريّاً وعمليّاً للفصل بين أهداف تحتاجها الأمّة العربيّة كلّها. الضعف في غياب التنسيق والعمل المشترك بين من هم في موقع واحد فكريّاً، لكنّهم عمليّاً وحركيّاً في شتات، بل في تنافسٍ أحياناً.
ولعلّ المدخل السليم لمعالجة هذا الوهن والضعف، هو إدراك مخاطر هذا الانفصام الحاصل بين الهويّة الثقافيّة العربيّة الواحدة، وبين الانتماءات الأخرى التي يتمّ الآن وضعها في حال تناقضٍ مع الهويّة العربية المشتركة.
فرغم التّحديات والمخاطر الكبرى التي تتعرّض لها الآن الأوطان العربيّة، متفرّقةً أو مجتمعة، فإنَّ الإجابة عن سؤال: »ما العمل؟« ما زالت متعثّرة على المستويين الوطني الداخلي، والعربي العام المشترك.
ربّما المشكلة في السؤال نفسه، وليست الإجابة عنه. فسؤال: »ما العمل« داخل الوطن أو الأمّة، يقتضي أولاً الاتفاق على فهمٍ مشترَك للمشكلة والواقع، ومن ثمّ تحديد الهدف المراد الوصول إليه. المشكلة الآن على المستويين الداخلي والعربي العام، هي غياب الرؤية المشتركة التي منها تنبثق برامج »العمل« ومراحله التنفيذيّة.
إنّ الخروج من مستنقع الانقسامات المهيمنة الآن على الأمّة العربية، ومن ثمّ العمل لبناء نهضة عربيّة منشودة، يتطلّب بدايةً القناعة بوجود هويّة عربيّة حضاريّة مشتركة بين البلاد العربيّة، وبأنّ هذه الهويّة هي هويّة ثقافية لا تقوم على عنصر قبلي أو على دين أو مذهب، رغم خصوصية علاقتها بالبُعد الحضاري الإسلامي من حيث التاريخ واللغة.
والعمل من أجل النهضة العربيّة يعني الانتقال من حال التخلّف والجهل والأميّة، إلى بناء مجتمع العدل وتكافؤ الفرص والتقدّم العلمي. وحينما يتّفق »مثقّفون وناشطون عرب« على هذه القضايا ويعملون وينسّقون من أجلها، فإنّ ذلك يصبح مخرجاً مهماً من حال التشرذم والانقسام السائد، ومدخلاً عملياً لوجود وتحقيق مشروع نهضةٍ عربية.