الحفاظ على المقاومة من أجل تحرير الأرض المحتلّة، ليس مجرّد شعارٍ للاستهلاك العاطفي. هو واقع حال الصراع العربي/الإسرائيلي منذ قيام الكيان الصهيوني الإسرائيلي قبل 66 عاماً. فهذه النتيجة العملية لكيفيّة استرجاع الأراضي المحتلة برزت ساطعة دون أيّ تشويه من خلال تجربة المقاومة اللبنانية، التي أجبرت إسرائيل قبل عشر سنوات تحديداً (أيّار/مايو 2000) على الانسحاب من الأراضي اللبنانية ودون أيَّة شروط أو معاهدات أو تنازلات.

وها هي إسرائيل مرّة جديدة تكرّر خطأها التاريخي في محاولة تصفية ظاهرة المقاومة الفلسطينية ضدّ احتلالها الغاشم عوضاً عن إنهاء الاحتلال نفسه.. ومرّة جديدة أيضاً وقفت بعض الحكومات الغربية مع إسرائيل وخلفها في هذه السياسة المخالفة لكلّ الشرائع والقوانين الدولية التي تُقرّ حقّ الشعوب بمقاومة المحتلّ لها. لكن هذه السياسة الإسرائيلية ليست جهلاً بدروس التاريخ وحقائق الشرائع الدولية، بل هي استمرار في المراهنة على القائم عربياً من صراعاتٍ وانقسامات.

إذ هل كان ممكناً أن تقوم إسرائيل بهذا الحجم الكبير من القتل والتدمير في قطاع غزّة لو لم تكن هناك موافقات ضمنية من بعض أطراف المنطقة على إنهاء ظاهرة المقاومة الفلسطينية المسلّحة ضدّ إسرائيل؟ لقد انتقل الصراع العربي/الإسرائيلي من تقزيمٍ له أساساً بالقول إنّه صراع فلسطيني/إسرائيلي إلى تقزيمٍ أكبر بوصفه الآن صراع إسرائيل مع »منظمات مسلّحة« في قطاع غزّة!

إنّ الطرف العربي المراهن على أسلوب المفاوضات فقط، قَبِل بتجزئة الجبهات العربية وبإلغاء مقولة »الصراع العربي/الإسرائيلي« أو شمولية المسؤولية عن القضية الفلسطينية، فتحوّلت المعاهدات مع إسرائيل إلى تسويات جزئية منفردة استفادت منها الحكومات الإسرائيلية كي تمارس حروباً وضغوطاً أكثر على الفلسطينيين، وعلى الجبهات الأخرى التي لم تشملها بعدُ التسويات.

لذلك، فإنّ المراهنة على دور أميركي »نزيه ومحايد« يتطلّب تحسين الواقع التفاوضي الفلسطيني والعربي، بل تغيير نهج معتمد منذ أكثر من ثلاثة عقود.

فواقع الحال الفلسطيني والعربي عموماً لا يمكن أن يشكّل الآن قوّة ضاغطة، لا على الحكومة الإسرائيلية ولا أيضاً على الموقفين الأميركي والأوروبي، وعربياً، فإنّ الحدّ الأدنى المطلوب الآن للتعامل مع »عواصف نتانياهو« و»ضبابية أوباما«، يكون في رفض أيِّ شكلٍ من أشكال الاعتراف بإسرائيل أو التطبيع معها قبل قيام الدولة الفلسطينية المستقلة وتحرير الأراضي المحتلّة، وفي دعم التوافق الفلسطيني على برنامج وطني توحيدي للتحرير ولقيام الدولة المستقلّة.

إنّ مشعل المقاومة ضدّ الاحتلال الإسرائيلي قد تحمله هذه الجهة أو تلك، لكنّه لا يجب أن يخمد أبداً، فالحفاظ على نهج المقاومة هو تأكيد لمقولة (الأرض مقابل المقاومة) بعدما ثبت فشل المقولات الأخرى، وفي هذا الأمر أيضاً إعادة الحيوية لنهج يضع خطّاً فاصلاً بين اليأس من واقع المفاوضات، وبين اليأس من إمكان تحصيل الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، بحيث يستطيع الشارع الفلسطيني أن يميّز الآن بدقّةٍ بين ما هو ميؤوسٌ منه وما هو مطموحٌ إليه عن طريق المقاومة ورفض الاستسلام للأمر الواقع.

لقد كانت مسألة المستوطنات، في السنوات الماضية من عهد الرئيس أوباما، رمزاً لمدى العجز العربي والضعف الأميركي من جهة، والاستهتار الإسرائيلي من جهةٍ أخرى بمن يمدّ إسرائيل بالسلاح والمال والدعم السياسي لعقودٍ طويلة. فإذا كانت الإدارة الأميركية (ومعها كل أطراف اللجنة الرباعية) غير قادرة على إجبار إسرائيل على وقف بناء المستوطنات، فكيف ستجبرها إذن على إخلاء الأراضي الفلسطينية المحتلّة وتسهيل بناء الدولة الفلسطينية المستقلّة؟! إنَّ واشنطن تضغط على العرب والفلسطينيين لكي يستمر أسلوب التفاوض مع إسرائيل في ظلّ شرط التخلّي الكامل عن أسلوب المقاومة ضدّ الاحتلال، طبعاً دون أيِّ اعترافٍ أميركي بطبيعة الاحتلال الإسرائيلي الذي أقرّت شرائع الأمم المتحدة حقّ مقاومته.

فواشنطن واضحة جداً فيما تطلبه وتريده من الفلسطينيين والعرب، لكنّها غامضةٌ جداً فيما تريده من إسرائيل. ولا يمكن اعتبار التباين الذي حصل بين أميركا وإسرائيل حول مسألة الاستيطان، أو الآن حول حجم الخسائر الفلسطينية في غزّة، بأنّه شرخٌ في العلاقات الأميركية/الإسرائيلية، فالمسألة هي في كيفيّة رؤية الاحتلال الإسرائيلي، وبالتالي رؤية أميركا لكيفيّة حقّ مقاومته.

أساس المشكلة الآن هو الاحتلال الإسرائيلي وليس فقط »حجم الخسائر« أو »موضوع الاستيطان« أو »الأسرى الفلسطينيين«.. أساس المشكلة هو عدم حديث واشنطن عن مسؤولية الاحتلال الإسرائيلي، بينما تتحدّث واشنطن كثيراً عن »حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها« وترفض حقّ الفلسطينيين بمقاومة الاحتلال.. أساس المشكلة الآن، أنَّ »المفاوضات والاتفاقيات« أعطت لإسرائيل حتّى الآن الكثير من التنازلات، ولم تأخذ منها الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني وبإنهاء الاحتلال للأراضي الفلسطينية.. أساس المشكلة الآن هو الوضع العربي، الذي يمزّق بعضه بعضاً، وفي ذلك أيضاً مصالح إسرائيلية كبيرة تراهن على مزيدٍ من التقسيم والتجزئة للأوطان العربية، وعلى تفكيك وهدم ما هو موجود من مؤسسات عسكرية قد تشكّل، كما حدث في حرب العام 1973، خطراً عليها.

ومهما حاولت الهيئات والمؤسسات العربية في أميركا، ومهما تظاهر وتحرّك الأميركيون والأوروبيون، فإنّ الاضطرار الأميركي لمراجعة السياسة يحصل فقط حينما تتحرّك المنطقة العربية نفسها.

ستراجع واشنطن حساباتها كثيراً لو يتزامن أسلوب مقاومة الاحتلال مع تحرّكٍ كبير للشارع العربي ومع حراكٍ داعمٍ له من الحكومات العربية، خاصة تلك التي لها علاقات أو اتفاقات مع إسرائيل. إذ أنّ أيَّ موقفٍ علني وعملي ساخط من هذه الحكومات على العدوان الإسرائيلي وعلى السياسة الأميركية المشجّعة له، سيجعل كلمة العرب والفلسطينيين مسموعة أكثر في واشنطن وفي الغرب عموماً.

في الأحوال كلّها، فإنّ الشارع الفلسطيني قد تجاوز أزمة الواقع الدولي والعربي الراهن. فالعبارة التي يردّدها الآن هي: »ارفَع رأسك يا أخي، فقد حان وقت المقاومة«!!.