لِمَ هذا الانحباس لدى معظم المسلمين في «كيفيّة العبادات»، بدلاً من التركيز على «ماهيّة وكيفيّة المعاملات» بين الناس أجمعين؟

ألا تؤكّد الأحاديث النبوية الشريفة على أهمّية الأخلاق في دين المسلم، حتى جرى القول إنّ «الدين المعاملة»؟ ولِمَ لا يتمّ استخلاص مجموعة من القواعد والقيم والمفاهيم لوضعها بشكل إعلان مبادئ إسلامية (مثل إعلان مبادئ حقوق الإنسان)، لتشمل مواضيع: الشورى والديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، ومواصفات الدعاة والعمل الصالح.

وضرورة نبذ أسلوب العنف وتحريم قتل الأبرياء، وواجبات أولي الأمر والحكّام وما يحفظ كرامة الإنسان وحقوقه، بحيث تصبح مرجعيةً لكلّ المسلمين، ومنارةً أيضاً لغير المسلمين لفهمٍ أفضل للإسلام؟ ففي ذلك مرجعيةٌ هامّة لمحاسبة الحاكم والمحكوم معاً، ولبناء أي وطن وكل مواطن، بدل التوقّف حصراً على اجتهادات الفقهاء حول ما هو حلال أو حرام!

ولِمَ لا يتحقّق الاتفاق على أنّ الدعوة للفكر الإسلامي في المنطقة العربية، هي في أحد جوانبها دعوةٌ لإعادة تصحيح خطيئة تاريخية استهدفت عزل هذه المنطقة عن هويّتها الحضارية ودورها العالمي.. وأنّ الدعوة للوطنية وللفكر القومي العربي، هي أصلاً تصحيح لخطيئة جغرافية استهدفت وتستهدف تجزئة المنطقة وإزالة هويّتها الثقافية الواحدة؟!

في كل الرسالات السماوية، لا تعارض بين العمل من أجل خدمة الأديان، والعمل من أجل الأوطان وهُويتها. كما لا تعارض بين مشروع سياسي قومي يستهدف تكامل المنطقة العربية لصالح كلّ أبنائها، وبين أي مشروع سياسي قائم على القيم الدينية يستهدف صالح الإنسان وتقدّمه.

فهل يجد المسلمون في أوروبا، مثلاً، تناقضاً بين مضمون دينهم وبين الوحدة التي حدثت بين الدول الأوروبية؟ وهل يتضرّر المسلمون في أميركا من الاتحاد بين ولاياتها؟ ثمّ، أيّهما يجب تغييره أو إصلاحه أولاً:

الحكم أم المجتمع؟ وهل إصلاح نظام الحكم سيؤدّي حتماً إلى إصلاح المجتمع؟ من المحتّم أنّ إصلاح المجتمع أولاً، هو السبيل إلى إصلاح الدولة ونظام الحكم. الأمّة العربية تقوم خبرتها التاريخية وحضارتها الثقافية على الحوار مع الآخر، بينما لا يفعل ذلك ناسُها. فهي مهبط كل الرسل والرسالات، وفيها ظهرت قبل الإسلام حضاراتٌ كثيرة ورسالاتٌ سماوية، وفي الإسلام دعوةٌ صريحة للتّعارف بين الشعوب، وعدم التفريق بين الرسل والأنبياء.

فهي أمَّة عربية مجبولة على التعدّدية وعلى حقّ وجود الآخر، وتقوم روحياً على تعدّد الرسل والرسالات، وديمغرافياً على تعدّد الأجناس والأعراق والألوان، وحضارياً على تجارب وآثار أهم الحضارات الإنسانية... بينما يسود واقع الأمَّة العربية الآن حال التخلّف والفرقة والفئوية والتعصّب!

لقد شهدنا في الفترة الماضية تفسيراتٍ مختلفة للتراجع الحاصل في عموم المنطقة العربية، وللهواجس التي تشغل بالَ كلّ إنسانٍ عربي، لكن قلّة من هذه التفسيرات تضع الإصبع على الجرح العربيِّ الأكبر. فأساس المشكلة أصلاً في المجتمعات العربية نفسها، وبكلِّ من فيها، وليس فقط في حكّامها أو في ما هو قائم من مشاريع ومؤامرات أجنبية.

فأين العرب الآن من المكوّنات الأساسية لمجتمعاتهم، والتي تقوم على الوطنية والعروبة والإيمان الديني؟ فالرسالات السماوية تدعو إلى التوحّد ونبذ الفرقة، و«العروبة» تعني التكامل ورفض الانقسام، و«الوطنية» هي تجسيد لمعنى المواطنة والوحدة الوطنية..

فأين العرب من ذلك كلّه؟ إنّ غياب الفهم الصّحيح للدّين ولمسألة الهُويّة وللعلاقة مع الآخر أيّاً كان، هو المناخ المناسب لأيّ صراع طائفي أو مذهبي أو إثني، يُحوّل ما هو إيجابي قائم على الاختلاف والتّعدّد، إلى عنفٍ دموي يُناقض جوهر الرّسالات السّماويّة والفهم السليم للهُوية الثقافية العربية، ويحقّق غايات الطامحين للسيطرة على العرب وعلى أرضهم ومقدّراتهم!

إنّ الصراعات الدموية الجارية الآن في أكثر من بلد عربي، وبروز ظاهرة «داعش» وأعمالها الإجرامية التقسيمية للأوطان وللشعوب، لم تصل كلّها بعدُ بالعرب إلى قاع المنحدر.

فما زالت أمامهم مخاطر كثيرة قبل أن تتّضح صورة مستقبلهم، لكن رغم وجود هذه المخاطر فعلاً، فإنّ ما تشهده الآن بلاد العرب من أفكار وممارسات سياسية خاطئة، باسم الدين والطائفة أو «الهُويّات الإثنية»، يمكن أن يكون هو ذاته، الدافع لتحقيق الإصلاح الجذري المطلوب في الفكر والممارسة، في الحكم وفي المعارضة. فقيمة الشيء لا تتأتّى إلاّ بعد فقدانه، والأمّة الآن عطشى لما هو بديل للحالة الراهنة من أفكار وممارسات سيّئة.

ليست هذه مجرّد تمنيّات، بل هي خلاصة تجارب شعوب أخرى، كالأوروبيين الذين خاضوا في النصف الأول من القرن الماضي حربين عالميتين دمّرتا أوروبا وسقط نتيجتهما الملايين، وكانت بين شعوب الدول صراعات قومية وإثنية وطائفية، أكثر بكثير مما تشهده الآن المجتمعات العربية.

رغم ذلك، وحينما توفّرت الظروف والقيادات والرؤى السليمة، طوت أوروبا صفحات الماضي المشين، واتّجهت نحو التوحّد والتكامل بين شعوبها، متجاوزةً ما بينها من خلافات في المصالح والسياسات، واختلافات في اللغات والثقافات والأعراق. أوروبا شهدت أيضاً في النصف الأول من القرن الماضي، تجارب فكرية وحزبية سيّئة، كالنازية والفاشية، ودفعت القارّة كلّها ثمناً باهظاً لسياسات هذه التجارب السيئة.

لكن هذا «النموذج الأوروبي» في التقاتل والتصارع أولاً، ثمّ في التكامل والتوحّد لاحقاً، احتاج إلى مناخ سياسي ديمقراطي داخلي، على مستوى الحكم والمجتمع معاً، ممّا سمح بحدوث التحوّل الكبير.

إنّ نقد الواقع ورفض سلبياته هو المدخل الصحيح لبناء مستقبل أفضل، لكنْ حين لا تحضر في مخيّلة الإنسان العربي صورة أحسن بديلة لواقعه، تكون النتيجة الحتمية هي الشلل في الفكر والعمل وتسليمه بالواقع تحت أعذار اليأس والإحباط وتعذُّر البديل!