توقف المراقبون في عموم العالم العربي أمام التطورات المستجدة في اليمن، والتي بَدتْ في أعين البعض منهم كما لو أنها حالة سريالية مُستعصية على الفهم والاستيعاب، إلا أنها عند العليمين بتاريخ وجغرافيا اليمن ليست سوى إعادة إنتاج ملهاوي لتاريخ طالما تقدَّم على خُطى التناسخ الأكروباتي لثقافة الكر والفر، بقدر ثقافة التعايش والتكامل..
فاليمن التاريخي كان مستودعاً أفقياً لفرق الكلام بتنوعها، وكانت الخلافات بين تلك الفرق واجتهاداتهم المتنوعة حد التناقض تُحل عبر السمات الخاصة للتعايش والتسامح والقبول بفكرتي النصر والهزيمة، انهيار النظام السياسي في اليمن بدأ منذ أمد بعيد، بل بدأ منذ أن تحولت الجمهوريتان السابقتان على الوحدة إلى شكل من أشكال الإقامة في الماضي السلبي..
والشاهد على ذلك التاريخ الصعب لجمهوريتي الشمال والجنوب السابقتين على وحدة مايو المخاتلة، أنهما أعادا إنتاج صراع النموذجين العائمين في فراغ الديماغوجية السياسية، ليقع الجميع في حرب النموذجين، ولتتوج معادلة المتاهة بشطب النموذج الجنوبي بإيجابياته وسلبياته..
والبقاء على الأوتوقراطية الناعمة لجمهورية صالح العتيدة.. قريبة الشبه بجمهوريات الموز الفاسدة في أميركا اللاتينية، وقد نالت المؤسسة العسكرية اليمنية النصيب الأوفر من ذلك الفساد السرطاني، وهو الأمر الذي يفسر لنا الانهيار الدراماتيكي لهذه المؤسسة الكبيرة.
ما حدث للجيش اليمني في صنعاء يشابه تماماً ماحدث للجيش الصومالي من انهيار حُر، قبيل سقوط نظام الرئيس الراحل محمد سياد بري، ولقد تمثل السيناريو الدراماتيكي يومها في اندفاع حفنة من الثائرين البسطاء الحاملين لبندقيات الكلاشنكوف صوب القصر الجهمهوري بالعاصمة مقديشيو، وهال سياد ومستشاريه تخلِّي الجيش الصومالي عن أي عمل عسكري ضد المهاجمين، وهكذا سقطت العاصمة في رابعة من نهار.
عانى الجيش الصومالي الأمرين من حرب «الأوغادين» العبثية، والهجمات غير المبررة على شمال الصومال، والفساد والجنرالات المأفونين بالنهب والسلب، وكانت كل هذه المقدمات رافعة كبرى لانهيار دفاعات النظام . هذا ماحدث بالضبط في عمران قبل صنعاء، وما تكرر في العاصمة اليمنية صنعاء.
من المحزن حقاً أننا لا نقرأ التاريخ القريب، وكانت حروب صعدة الست مثالا فاقعا عن خيبة المسعى والمآلات، فقد جرت تلك الحروب بعنوان صارخ يتحدث عن تمرد الحوثيين على الدولة، فيما كانت الأهداف الميكيافيللية الخفية للحرب قابعة في فكرة التخلص من رفاق الدرب غير القابلين بالترتيبيات السياسية الجديدة الخارجة من دولاب الرئيس السابق ومستشاريه الميامين.
رحم الله العلامة الكبير ابن خلدون، فهو أول من كاشف محنة الزعامات التي تقود الأوطان، وعينها على المال، بل كان سبَّاقاً في اعتبار القيادة الرشيدة مستحيلة عند القائد التاجر، وبلغة عصرنا القائد المنخرط في تجارة المال والأملاك، وشراء الذمم والضمائر، والاتكاء على أسوأ العقول والقلوب.
في حرب صعدة الأولى كان واضحاً أن الهدف غير المُعلن تمثَّل في ضرب عصفورين بحجرة واحدة، والتخلص المزدوج من القلق الحوثي، وإضعاف الخصوم المحتملين من داخل النظام في ذات الوقت؛ ومن هنا بدأت لعبة القط والفأر، حتى جاءت لحظة «البجعة السوداء» اليمانية، من خلال عاصفة الربيع العربي، فانكشف المستور، وبدأت متوالية الانهيار التي لم تتوقف منذ ذلك الحين، ذلك أن التوافقية السياسية الحميدة عطفاً على المبادرة الخليجية ومرئياتها الحالمة، سرعان ما انكشفت عن حقيقتين واضحتين..
تجلَّت الأولى في استمرارية الانهيار، وعجز النظام عن مواجهة استحقاقات المرحلة، فيما تجلَّت الثانية في تزايد فتوة الحوثية السياسية، حيث انخرط الحوثيون في العملية السياسية عبر حزبهم المعلن، وحضورهم المشارك في مؤتمر الحوار الوطني، لكنهم بنفس القدر واصلوا ترسيخ حضورهم الميداني العسكري، مستهدفين خصومهم الأيديولوجيين القادمين من ذات المربع المقرون بالدين السياسي.
صراع الحوثيين والسلفيين كان العنوان المؤكد لذلك الصراع، لكنه صراع لم يقف عند تخوم الظاهر، بل انخرط فيه آخرون يتحالفون مع هذا الطرف أو ذاك، فيما يحتفظون بأجنداتهم الخاصة، وهؤلاء بجملتهم يأتون من تضاعيف النظام السابق وبلاياه الكثيرة، ويتميزون بكونهم أمراء حرب اعتياديين، وإن لبسوا نياشين الدولة، وتحدثوا بلغة العصر.
ومن عجائب الأيام وغرائبه التي جعلت حكيم معرة النعمان يسخر فيها من الدهر، ذلك التحول الدراماتيكي لأشاوس الأمس القريب ممن أصبحوا بين عشية وضحاها سيوفاً من خشب.
قال المعري الحكيم:
من راعه زمن أو هاله عجب فلي ثمانيـن حـولاً لا أرى عجبـا
اليوم كالأمس والأفلاك دائرة والناس كالناس والدنيا لمن غلبا
سقطت صنعاء بيد الحوثيين سقوطاً حراً، كذلك الذي حاق قبل ثلاثة عقود بعاصمة الدكتاتور الفولكلوري سياد بري، وبالإمبراطورية الرومانية قديماً.
سقوط صنعاء بدأ منذ أمد بعيد، ليتحول إلى انهيار بالتداعي البسيط، وليفسح الباب لنموذج جديد.. نموذج لا يقف عن حد صنعاء واليمن. الترتيبات التوافقية الإجرائية لا تقدم جواباً ناجزاً عن المستقبل، والحوثيون المنتشون بالظَّفر الميداني موعودون بدرب سياسي شائك يتطلب منهم الارتقاء بأدوات الخطاب والممارسة، والولوج إلى معترك العملية السياسية بوصفهم شركاء وطن ومصير.. مُجبرون على التعامل مع الاستحقاقات المتغيرة، والتضاريس المتعرجة، والخصوصية المـُتأبِّية على الاستيراد الميكانيكي للموديلات الغاربة، فهل يفعلون؟