في الإسلام مفاهيم وضوابط واضحة لا تقبل بأيِّ حالٍ من الأحوال قتْل الأبرياء (وهو مضمون المصطلح المتداول الآن «الإرهاب»)، مهما كانت الظروف والأعذار، حتى ولو استخدم الطرف المعادي نفسه هذا الأسلوب. وفي قول ابن آدم (هابيل) لأخيه (قابيل) حكمة بالغة لمن يعيها: ((لئِنْ بسَطْتَ إليَّ يدَكَ لتقتُلني ما أنا بباسطٍ يدِيَ إليكَ لأقتُلَكَ إنّي أخافُ اللهَ ربَّ العالمين. إنّي أُريدُ أن تبُوْأَ بإثْمي وإثْمِكَ فَتكونَ من أصحابِ النّارِ وذلكَ جزاءُ الظالمين)) سورة المائدة: 28 و29.

وفي القرآن الكريم أيضاً: ((منْ قتَلَ نفْساً بغيْر نفْسٍ أو فَسَادٍ في الأرضِ فكأنّما قتلَ النَّاسَ جميعاً، ومَنْ أحْياها فكأنّما أحيا الناسَ جميعاً)) سورة المائدة: 32. وجاء في النصّ القرآني أيضاً ما يؤكد الاعتدال ورفض التطرف: ((وكذلِكَ جعلناكُمْ أمَّةً وسَطاً لتكونوا شُهَداءَ على النّاس..)) سورة البقرة: 143).

وفيه أيضاً: ((وما أرْسَلْناكَ إلا رَحْمةً للعالمين)) سورة الأنبياء: 107، ((ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخرى)) سورة فاطر: 18، ((ولا تستوي الحسَنةُ ولا السيّئةُ ادْفَعْ بالتي هِيَ أحسَنُ فإذا الذي بينَكَ وبيْنَهُ عداوَةٌ كأنَّهُ وليٌّ حميم)) سورة فُصِّلت: 34، ((وتَعاونوا على البِرِّ والتَّقوى وَلا تَعَاوَنوا على الإثْمِ والعُدْوان)) سورة المائدة: 2. وفي القرآن الكريم نجد الآيات: ((ادعُ إلى سبيلِ ربِّك بالحِكْمةِ والمَوْعظةِ الحَسَنَةِ وَجادِلْهُم بالتي هيَ أحسنُ)) سورة: النحل 125.

((أفَأنْتِ تُكْرِهُ النَّاسَ حتى يكونوا مؤمنين)) سورة يونس: 99. ((وجعلناكم شعوباً وقبائلَ لِتَعارفوا)) سورة الحجرات: 13. ((وَعِبادُ الرَّحمنِ الذين يَمشونَ على الأرضِ هَوْناً وإذا خاطَبَهُمُ الجاهِلونَ قالوا سَلاماً)) سورة الفرقان: 63.

هذه نماذج قليلة من كثيرٍ ورَدَ في القرآن الكريم، كتاب الله الذي يكرّر المسلمون قراءته (بل ويحفظونه غيباً أحياناً)، لكن الهوّة سحيقةٌ بين من يقرؤون وبين من يفقهون ما يقرؤون.. ثم بين من يسلكون في أعمالهم ما يفقهونه في فكرهم! فلِمَ يتواصل استهلاك الجهود والطاقات الفكرية في العالم الإسلامي عموماً، بالعودة المتزمّتة والمتعصّبة إلى اجتهاداتٍ وتفسيراتٍ كانت خاضعةً لزمنٍ معيّن في مكانٍ محدّد؟

ولماذا هذا الانحباس لدى المسلمين في الاختلاف بينهم حول «كيفيّة العبادات»، بدلاً من التركيز على «ماهيّة وكيفيّة المعاملات» بين الناس أجمعين؟ ألم يقل الحديث النبوي الشريف: «الدين المعاملة»؟ ولِمَ لا يتمّ استخلاص مجموعة من القواعد والقيم والمفاهيم لوضعها بشكل إعلان مبادئ إسلامية (مثل إعلان مبادئ حقوق الإنسان)، لتشمل مواضيع:

الشورى والحكم، والعدل والمساواة، ومواصفات الدعاة والعمل الصالح، وواجبات أولي الأمر والحكّام، وكل ما يحفظ كرامة الإنسان وحقوقه، وكيفية العلاقة مع الآخر، بحيث تصبح هذه المبادئ مرجعيةً مشتركة لكلّ المسلمين، ومنارةً أيضاً لغير المسلمين لفهمٍ أفضل للإسلام؟ ففي ذلك مرجعيةٌ مهمّة لمحاسبة الحاكم والمحكوم معاً، ولبناء أي وطن وكل مواطن.

يربط الدين الإسلامي الحنيف بين الإيمان والعمل الصالح، أي بين النظرية والتطبيق، بين الشعار والممارسة. فهل يفعل المسلمون ذلك حقّاً حينما يتحدّثون عن العلاقة مع الآخر وعن التعدّدية والتسامح وعن احترام حقوق الآخرين؟! إنّ الأمّة العربية تقوم أصول ثقافتها الدينية والحضارية على الحوار مع الآخر، وهي مهبط كل الرسل والرسالات، وفيها ظهرت قبل الإسلام حضاراتٌ كثيرة ورسالاتٌ سماوية.

وفي الدين الإسلامي دعوةٌ صريحة للتّعارف بين الشعوب، ولعدم التفريق بين الرسل والأنبياء. فهي أمَّة عربية مجبولة على التعدّدية وعلى حقّ وجود الآخر، وتقوم روحياً على تعدّد الرسل والرسالات، وديمغرافياً على تعدّد الأجناس والأعراق والألوان، وحضارياً على تجارب وآثار أهم الحضارات الإنسانية.

لِمَ لا تحدث الآن وقفة مع النفس العربية عموماً، والإسلامية منها خصوصاً، للتساؤل عمَّا حدث ويحدث في المنطقة العربية وخارجها من عنف مسلّح تحت مظلّة دينية وشعارات إسلامية؟ ولِمَ هذا الانفصام في الشخصية العربية بين الإجماع على المصلحة الإسرائيلية في تفتيت الكيانات العربية من جهة..

وفي إثارة موضوع «الخطر الإسلامي» القادم من الشرق كعدوٍّ جديد للغرب بعد اندثار الحقبة الشيوعية، من جهة أخرى، وإضفاء صفة الإرهاب على العرب والمسلمين، وبين ما نشهده من انتشار أفكار وممارسات طائفية ومذهبية وإثنية في معظم المجتمعات العربية، وتصاعد مستوى العنف المسلّح الذي تقوم به جماعات تحمل أسماء إسلامية؟!

فأيُّ شريعة تحلل قتل الأبرياء والأطفال والنساء والمدنيين وهدم وحدة الأمة والمجتمع؟ وأيُّ منطقٍ عربي أو إسلامي يُفسّر كيف أنّ هناك هدنة في الأراضي الفلسطينية المحتلّة اقتضت وقف العمليات العسكرية ضدَّ الاحتلال الإسرائيلي، بينما تتصاعد موجة العنف المسلّح الأهلي في المشرق العربي وفي دول عربية أخرى؟!

الاحتلال الإسرائيلي، بما هو عليه من احتلال استيطاني يستهدف ابتلاع الأرض وإقامة مستوطنات فيها، وطرد أصحابها الشرعيين منها، ولا حالة مساوية له في تاريخ الاحتلالات في المنطقة العربية.. يجوز أن تحصل معه تسويات ومعاهدات، وأن تُمنَع ضدّه العمليات العسكرية من كلّ الجبهات..

بينما لا يزال بعض الأطراف العربية (الحاكمة أو المعارضة) يرفض وضع تسويات سياسية لأزمات أمنية في بلدانها؟! المشروع الإسرائيلي وحده المستفيد من هذه الأعمال التي تجري الآن على أرضٍ عربية، تجعلها خصبة لكلّ أنواع التمزيق والتقسيم والاقتتال الداخلي..

وما هي بصدفةٍ سياسية أن يتزامن تصنيف العرب والمسلمين في العالم كلّه (وليس الغرب وحده) بالإرهابيين، طبقاً للتعبئة الإسرائيلية التي جرت منذ مطلع التسعينات، مع خروج جماعات التفرقة الطائفية والمذهبية والإثنية في كلّ البلاد العربية!

ففي غياب المشاريع الوطنية التوحيدية الجادّة داخل البلاد العربية، وفي غياب المرجعية العربية الفاعلة، أصبحت المنطقة العربية مفتوحةً ومشرَعة ليس فقط أمام التدخل الأجنبي، بل أيضاً أمام مشاريع التقسيم والحروب الأهلية التي تجعل المنطقة كلّها تدور في الفلك الإسرائيلي.