الفتن الداخلية العربية الجارية الآن في أكثر من مكان، هي حلقة متصلة بسلسلة الصراع العربي/ الصهيوني على مدار مئة عام. فلم يكن ممكناً قبل قرنٍ من الزمن، تنفيذ «وعد بلفور» بإنشاء دولة إسرائيل، دون تقطيع للجسم العربي وللأرض العربية، حيث تزامن الوعد البريطاني ـ الصهيوني مع الاتفاق البريطاني ـ الفرنسي المعروف باسم «سايكس- بيكو»،..

والذي أوجد كياناتٍ عربية متصارعة على الحدود، وضامنة للمصالح الغربية، ومسهّلة للنكبة الكبرى في فلسطين. فلا فصل إطلاقاً بين معارك التحرّر الوطني من المستعمر الغربي التي جرت في البلاد العربية، وبين الصراع العربي/ الصهيوني، ولا فصل أيضاً بين أيِّ سعي لاتحاد أو تكامل عربي، وبين تأثيرات ذلك على هذا الصراع.

فالاعتراف الدولي بإسرائيل، ثمّ الاعتراف العربي بها ضمنيا، و«تطبيع» بعض الحكومات العربية لعلاقاتها معها، كلّها لم تكن كافية لـ«شرعنة» الوجود الإسرائيلي في فلسطين، وللتهويد المنشود للقدس ومعظم الضفة الغربية، فهذه «الشرعنة» تتطلب قيام دويلات أخرى في محيط إسرائيل على أسس دينية أيضاً، كما هي الآن مقولة «إسرائيل دولة لليهود». فما قاله «نتنياهو» من أنّ «المشكلة مع الفلسطينيين ليست حول الأرض، بل حول الاعتراف بيهودية الدولة الإسرائيلية».

وكلّما ازدادت الصراعات الطائفية والمذهبية والإثنية على الأرض العربية، كلّما اقترب الحلم الصهيوني الكبير بأن تكون إسرائيل هي الدولة الدينية الأقوى في منطقةٍ قائمة على دويلاتٍ طائفية.

فالمراهنة الإسرائيلية هي على ولادة هذه «الدويلات»، التي بوجودها لن تكون هناك دولة فلسطينية مستقلة، ولا تقسيم للقدس، ولا عودة لملايين اللاجئين الفلسطينيين، بل توطين لهم في «الدويلات» المستحدثة، وتوظيف سلاحهم في حروب «داحس والغبراء» الجديدة بقيادة بعض «الثوار العرب الجدد»!

إنّ ما يحدث الآن على الأرض العربية، ليس فقط متغيّرات سياسية محلية تتدخّل فيها، وتتجاوب مع تفاعلاتها، قوى إقليمية ودولية، بل مجرد مقطع من صورة مرسومة مسبقاً لتغييرٍ جغرافي وديمغرافي منشود لدول عربية عديدة. ألم تكن الحرب على العراق في 2003..

وما أفرزته من واقع تقسيمي للدولة والشعب والثروات، وما مثّلته من تداخل بين الصراعات المحلية والإقليمية والدولية، كافية لتكون نموذجاً عن الهدف الخفي المرجو من مزيج الحروب الأهلية والتدخّل الخارجي؟ ألم يكن درس تقسيم السودان مطلع 2011 مؤشّراً على المصير المرغوب لأوطان عربية أخرى؟ وهل كانت نتائج التدخل الأجنبي في ليبيا لصالح الشعب الليبي ووحدته واستقراره؟!

رغم ذلك استمر بعض قوى المعارضات العربية في المراهنة على الدعم الخارجي لمعاركها الداخلية، ويتواصل عربياً تهميش القضية الفلسطينية وتجاهل العامل الإسرائيلي في حروب العرب مع بعضهم، وفي نشأة جماعات التطرف والإرهاب في المنطقة، التي نرى مثالاً لها مؤخراً، وليس أخيراً، جماعات «داعش» و«النصرة»!

فكم هو جهلٌ مثير للتساؤل حين يتمّ استبعاد الدور الإسرائيلي في تفاعلات داخلية تحدث في عدّة أوطان عربية، وحينما لا ينتبه العرب للمصلحة الإسرائيلية الكبرى في تفتيت أوطانهم وفي صراعاتهم العنفية تحت أيِّ شعارٍ كان. فأمن إسرائيل يتحقّق (كما قال أحد الوزراء الإسرائيليين بعد حرب 1967) «حينما يكون كره العربي للعربي أكثر من كرهه للإسرائيلي».

هناك سعيٌ إسرائيلي متواصل، منذ عقودٍ من الزمن، لدعم وجود «دويلات» طائفية وإثنية في المنطقة العربية. وحينما تنشأ هذه الدويلات فإنّها ستحتاج إلى زيادة ديمغرافية في عدد التابعين لهذه الطائفة أو ذاك المذهب، ممّا سيسّهل حتماً مشروع توطين الفلسطينيين خارج فلسطين، وفي ذلك حلٌّ لقضية «اللاجئين الفلسطينيين»، تُراهن عليه إسرائيل أيضاً.

وفي حقبة «الصراعات الدموية العربية»، ستواصل إسرائيل بناء المستوطنات وزيادة الضغوط على فلسطينييّ 1948 لتهجير ما أمكن منهم إلى «دويلات» تحتاجهم عدداً. فإسرائيل بمختلف حكوماتها راهنت على تجزئة المجزأ عربياً، وشجّعت كل الحركات الانفصالية في المنطقة، كمدخل لمشاريع التقسيم الطائفي الذي أعدّت له منذ خمسينات القرن الماضي.

فإسرائيل التي رفضت وترفض قرار تقسيم فلسطين (رقم 181)، وهو الاسم الذي أطلق على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الصادر في 29 نوفمبر 1947، هي نفسها التي عملت وتعمل على تقسيم البلاد العربية، إذ إنّ قرار التقسيم يعني إعلان حدود دولية للدولة الإسرائيلية، ووجود دولة فلسطينية مستقلة على ما هو أشمل بكثير من الضفة الغربية وغزة، كما يعني وضع مدينة القدس وجوارها تحت الوصاية الدولية، وهي أمور كلّها مرفوضة من كل الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة.

إنّ الصراعات والتحدّيات هي قدَر الأمّة العربية على مدار التاريخ، بما هي عليه من موقع استراتيجي مهم، وبما فيها من ثروات طبيعية ومصادر للطاقة، وبما عليها من أماكن مقدّسة لكلِّ الرسالات السماوية، لكن ما يتوقّف على مشيئة شعوبها وإرادتهم هو كيفيّة التعامل مع هذه التحدّيات...

وهو أيضاً نوعية التغيير الذي يحدث على كياناتها وفي مجتمعاتها. هناك بلا شك خميرة عربية صالحة في كلّ بلدٍ عربي وفي أكثر من مكان في الخارج، ورافضة لما يحدث بين العرب من انقساماتٍ وتدخّلٍ أجنبي..

لكنّها تعاني من صعوبة الظرف وقلّة الإمكانات وسوء المناخ السياسي والإعلامي المسيطر، إلاّ أنّ تلك الصعوبات يجب أن لا تدفع لليأس والإحباط، بل إلى مزيدٍ من المسؤولية والجهد والعمل. فالبديل عن ذلك هو ترك الساحة لصالح من يعبثون بوحدة شعوب وأوطان هذه الأمّة، ويشعلون نار الفتنة في رحابها، بأسماء دينية وبمضامين إسرائيلية فقط.