ها هي القضية الفلسطينية تعود من جديد إلى أروقة الأمم المتحدة وإلى مجلس الأمن فيها، رغم تكرار هذا الأمر عشرات المرات في العقود الستة الماضية دون تنفيذ الحدّ الأدنى من قرارات دولية متعدّدة بشأن حقوق الشعب الفلسطيني، والذي يعاني بعضه المقيم على أرضه من عسف الاحتلال، وبعضه الآخر من ظلم وقهر اللجوء والتشرّد في بقاع العالم لأكثر من ستين عاماً.

فما الجديد الآن لكي تكون هناك آمال ومراهنات على نتائج أفضل من مؤسسة دولية، كانت هي التي شرّعت الوجود الإسرائيلي على أرض فلسطين ولم تُجبر هذا «الوليد الأممي» الجديد على احترام وتنفيذ أي قرارات صادرة عنها!؟

هل العجز عن توفير بدائل فلسطينية وعربية أخرى هو الدافع لهذا التحرّك الآن نحو مجلس الأمن؟! فالمشروع الأردني أمام «مجلس الأمن» جرت الموافقة عليه من قبل «السلطة الوطنية الفلسطينية» و«جامعة الدول العربية»، وهو مشروع جيّد لو يجري تطبيقه، لكن ما الذي سيجعل أي حكومة إسرائيلية تقبل به وتعمل على تنفيذه؟! وهل نفّذت إسرائيل أصلاً أي قرارات مشابهة من الجمعية العامة أو من مجلس الأمن؟!

إنّ إدارة أوباما تنظر لمضمون «المشروع الأردني» أمام مجلس الأمن بمثابة «السقف الأعلى» الذي يمكن تعديله والتفاوض بشأنه، بل ربّما هي نسّقت بشأنه مع الطرفين الأردني والفلسطيني قبل الإعلان عنه، فهي تريد توظيفه كأداة ضغط على حكومة نتانياهو من أجل وقف الاستيطان والعودة للمفاوضات حول القضايا النهائية المتعلّقة بقيام دولة فلسطينية.

لذلك وجدنا المشاريع الأوروبية تخرج في مواجهة المشروع «الأردني - الفلسطيني»، وأيضاً بالتنسيق مع واشنطن، لكي تتحوّل صيغة مشروع القرار من مهلة سنتين لإنهاء الاحتلال إلى مهلة سنتين لإنهاء التفاوض!

طبعاً، ليست هي المرّة الأولى التي تتباين فيها المواقف بين واشنطن وتل أبيب، فقد حدث ذلك في مطلع عقد التسعينات بين إدارة جورج بوش الأب وبين حكومة شامير، ثم تكرّر الأمر في نهاية العقد نفسه بين إدارة بيل كلينتون وحكومة نتانياهو حيث دعمت واشنطن آنذاك الانتخابات المبكرة في إسرائيل، والتي أدّت إلى وصول إيهود باراك لرئاسة الحكومة بدلاً من نتانياهو، وهو أمرٌ تراهن إدارة أوباما على حدوث حالة مشابهة له في مطلع العام المقبل.

المشكلة هنا أنّه في ظلّ حضور الضغط الإسرائيلي الفاعل داخل الولايات المتحدة، من خلال العلاقة مع أعضاء الكونغرس والهيمنة على معظم وسائل الإعلام، تصبح السلطة التنفيذية في أميركا أسيرة ضغوط السلطة التشريعية و«السلطة الرابعة» أي الإعلام.

وعندها لا يكون الفرز فقط بين حزب ديمقراطي حاكم وحزب جمهوري معارض، بل يتوزّع «التأثير الإسرائيلي» (كما هو أيضاً في قوى الضغط الأخرى) على الحزبين معاً، فنرى عدداً لا بأس به من «الديمقراطيين» يشاركون في ممارسة الضغط على الإدارة الحاكمة لصالح هذا «اللوبي» أو ذاك.

والمعضلة أيضاً هي في الاختلال الكبير بميزان «الضغوطات» على الإدارة الأميركية لجهة حضور «الضغط الإسرائيلي» وغياب «الضغط العربي» الفاعل، ممّا يسهّل الخيارات دائماً للحاكم الأميركي بأن يتجنّب الضغط على إسرائيل ويختار الضغط على الجانب العربي، والطرف الفلسطيني تحديداً، وهو الطرف المستهدف أولاً من قِبَل إسرائيل، كما هو «الحلقة الأضعف» في سلسلة التحرّك الأميركي بالمنطقة.

هل تراهن إدارة أوباما الآن على استثمار نتائج ما حدث ويحدث في البلاد العربية من تهميش للقضية الفلسطينية ومن تفجير لصراعات وحروب أهلية عربية ومن غياب لمرجعية عربية فاعلة، من أجل دفع إسرائيل لقبول «المبادرة العربية» بعد الحديث عن تعديلات في نصوصها، فيعمّ التطبيع «العربي والإسلامي» مع إسرائيل قبل انسحابها من كل الأراضي العربية المحتلّة في العام 1967؟!

الضغط الأميركي المطلوب على الحكومة الإسرائيلية يحتاج أولاً إلى ضغط فلسطيني وعربي على واشنطن وعلى المجتمع الدولي عموماً، وما حدث من «أزمات معنوية» بين أوباما ونتانياهو لم يكن بين «الدولتين»: أميركا وإسرائيل، بل بين إدارة أوباما وحكومة نتانياهو. والأزمة أصلاً كان مردّها الأجندة الخاصّة بكلّ طرف حول أوضاع الشرق الأوسط ككل.

فالتزامن بالوصول إلى الحكم في العام 2009، الذي حدث بين إدارة أوباما وحكومة نتانياهو، لم يرافقه توافق في الأجندات المرحلية. فبينما جاءت إدارة أوباما على شعارات رفض الحروب والسعي لمعالجة الأزمات الدولية عبر التفاوض، وصل نتانياهو للحكم بفضل غالبية متطرّفة من الناخبين الإسرائيليين، بعضهم يريد تهجير الفلسطينيين من الضفّة ومن أراضي العام 1948، ويرفض الاتفاقات الموقّعة مع السلطة الفلسطينية.

خلاصة تجارب الماضي تؤكد أنّ الأمّة أو الأوطان التي لا يتوحّد ولا يتحرّك أبناؤها من أجل قضاياها، تنقاد حتماً لما سيقرّره لها الآخرون!