لقد كانت كلمة (الحوار)، قبل عقدين من الزمن، غير مرغوبة عربياً، لا من قِبَل الحكومات، ولا من قِبَل المنظمات السياسية المعارضة. فالحكومات كانت تعتبر (الحوار) مدخلاً لعملية ديمقراطية لا تريدها في أوطانها، كما أنّ (الحوار) يعني اعترافاً بوجود رأي آخر غير رأي الحاكم الذي يفترض أن يكون هو الأصحّ دوماً!.

أمّا الحركات السياسية المعارضة، فكان معظمها ينظر بعين الارتياب إلى كلمة (الحوار) لأنّ فيها إمكانات التنازل عمّا لديها من أفكار وبرامج عمل وأساليب عنفية في بعض الأحيان.

فلا الحاكم كان يرغب بمشاركة أحدٍ معه في الحكم أو في صنع القرار الوطني، ولا المعارض كان يرى مجالاً للمساومة على برنامجه وأسلوبه في العمل!.

لكن المشكلة لم تكن فقط بين «الحاكم» و«المعارض»، بل كانت أيضاً داخل «الحكم» وداخل «المعارضة»، حيث لا مجال لتعدّدية الرأي بشكلٍ حرٍّ وصريح في أيٍّ من «المعسكرين».

أيضاً، قبل عقدين من الزمن، كانت كلمة (الحوار) مستخدَمة عربياً فقط للحديث عن «حوار عربي/أوروبي» أو «حوارات عربية/إسرائيلية»، بينما الحوارات العربية الداخلية والبينية بين العرب كانت محدودة أو غائبة تماماً. وكان مطلع عقد التسعينات هو في صلب مرحلة الاتفاقات مع إسرائيل وبدء الحديث عن «الشرق أوسطية» كبديل للهويّة العربية..

وعن التطبيع مع إسرائيل كبديلٍ عن العلاقات الطبيعية بين العرب أنفسهم. باختصار، كان الحوار بين العرب من جهة، وغير العرب من جهةٍ أخرى، نشِطاً وجارياً في كلّ مجال، بينما الحوار بين العرب أنفسهم مقطوعٌ ومُعطَّل في معظم الأحيان.

متغيّرات كثيرة حدثت في العقدين الماضيين على المستوى العالمي وداخل البلاد العربية. ولعبت، ولا تزال، وسائل الإنترنت والإعلام الفضائي دوراً كبيراً في التواصل بين الأفراد والجماعات والشعوب.

لكن المنطقة العربية انتقلت من حال تجاهل كلمة (الحوار) إلى حال استهلاكٍ عشوائي شديدٍ لها فيما بعد ممّا أفقدها معناها الحقيقي.

فالحديث يكثر الآن في عدّة بلدان عربية عن (حوار مطلوب) بين الأطراف الحاكمة والمعارضة لها. دون الإدراك أنّ المطلوب لحل هذه الأزمات السياسية القائمة هو (التفاوض) أو (الجدل)، وليس أسلوب (الحوار) فقط.

ف(الحوار) هو أسلوب يحدث في التعامل بين الأفراد والجماعات من أجل التعارف مع «الآخر» وفهم هذا «الآخر»، لكن ليس بالضرورة من أجل التوصّل معه إلى حال التفاهم والتوافق الشامل.

(الحوار) هو تعبير عن الاعتراف بوجود «الآخر» وعن حقّه بالمشاركة في الرأي، فهل تحتاج الأطراف السياسية المتنازعة في الأزمات العربية القائمة الآن إلى هذا المفهوم فقط عن (الحوار)؟! وهل يجهل أصلاً كلُّ طرفٍ من هذه الأطراف ماهيّة الرأي الآخر؟

فالفرق كبير بين (الحوار) المهمّ حدوثه كخطوة أولى، وبين (التفاوض)، كما هو فارقٌ كبيرٌ أيضاً بين (الحوار) وبين (الجدل) الذي يستهدف الوصول إلى نتيجة بديلة لما كان قائماً من تناقض بين رأيين أو موقفين.

(الحوار) هو أسلوب مكاشفة ومصارحة وتعريف بما لدى طرفٍ ما، دون شرط التوصّل إلى اتفاق مع «الآخر»، وأيضاً دون مدًى زمنيٍّ محدّد لهذا الحوار. أمّا (التفاوض) فهو ينطلق من معرفة مسبَقة بما يريده الآخر..

لكن في إطار المحادثات التي تستهدف مسبقاً الحصول على مكاسب في جانب، مقابل تنازلاتٍ في جانبٍ آخر. أي أنّ كلّ طرفٍ مفاوض يكسب ويتنازل في الوقت نفسه، في حين أنّ (الحوار) ليس فيه مكاسب أو تنازلات، بل هو تفاعل معرفي دون شرط التوصّل إلى نتيجة مشتركة.

أمّا (الجدل)، فهو تعبير مظلوم في الثقافة العربية المعاصرة، إذ هو منهجٌ مطلوب ومهمّ إذا أحسن الأفراد أو الجماعات معرفة متى وكيف يُستخدَم.

(الجدل) هو التقاء نقيضين وتفاعلهما في محتوًى واحد، وبظروف معيّنة وبزمان محدّد، وتخرج حصيلة هذا التفاعل نتيجة جديدة بديلة عن النقيضين. فهو منهج علمي من جهة، وهو أسلوب تعامل بين البشر من جهةٍ أخرى.

(الجدل) هو (حوار) مشروط بالتوصّل إلى نتيجة بديلة حاسمة، لكن (الجدل) لا يكون مفيداً إذا لم تتوفّر الموافقة عليه، والقدرة على أدائه، من كل الأطراف المعنيّة فيه.

ونجد هذا الخلط العجيب بين (الحوار) و(الجدل)، في «مسرحيات» بعددٍ لا بأس فيه من البرامج الحوارية التلفزيونية، حيث المتوجّب في هذه البرامج هو الحوارات الجادّة التي لا تشترط من طرف الموافقة على رأي الطرف الآخر، وتبقي الاختلاف في حدود الآراء بحيث لا تتحوّل إلى خلاف بين الأشخاص.

إنّ البلاد العربية هي في حاجة قصوى الآن لكلّ هذه المفاهيم معاً. هي بحاجة للحوار كأسلوب داخل العائلة الواحدة، كما أنّ العائلة بحاجة للجدل أحياناً لحسم بعض الأمور على أسس سليمة. الأوطان العربية بحاجة إلى حوار داخل شعوبها ومؤسساتها المدنية وبين دعاة الفكر والدين والثقافة، لكن بعضها (أي بعض البلاد العربية)..

وعلى الأخصّ تلك التي تشهد الآن أزماتٍ أمنية وسياسية خانقة، تحتاج أيضاً إلى مفاوضات بين الأطراف المتنازعة، لا إلى أسلوب الحوار فقط، وصولاً إلى وفاق وطني يميّز أيضاً بين الاختلاف السياسي المرغوب والخلاف المسلّح المرفوض.