ترجل الأمير سعود الفيصل، فارس الدبلوماسية السعودية، وعميد وزراء الخارجية العرب والأجانب لسنوات طويلة. ترجل الفارس عن عمرٍ ناهز الخامسة والسبعين، بعد أقل من عامٍ من اتخاذه قرار التقاعد عن أمانة الدبلوماسية السعودية التي حملها لأكثر من أربعة عقودٍ متصلة، خلفاً لوالده الراحل الملك فيصل بن عبد العزيز في العام 1975.

وقد تناول المعلقون جوانب عديدة من حياة العميد وسيرته، وألقوا الضوء على خصائص شخصيته، واستقرأوا خبراته السياسية، وأمعنوا النظر في منجزاته الدبلوماسية. بيد أني أريد استكشاف بعدٍ على جانب كبير من الأهمية، لم يلق حظه بعد من البحث والتمحيص، وإن كنت ما أشك في أنه سوف يتوفر له باحثون يقومون عليه في قابل الأيام. وهذا البعد يتعلق بالتراث الذي خلفه عميد الدبلوماسية السعودية لوطنه ولأمته العربية، والذي سوف يُسهم في إغناء عملية صنع السياسات الخارجية للدول العربية.

لعل أول ما يمكن استكشافه في تراث العميد أنّه استطاع أنْ يضع بلاده في موقع القيادة لأمتها العربية، في فترةٍ اتسمت بالاضطراب وعدم التأكد على المستويين الإقليمي والعالمي، واتسمت أيضاً بتفكك وبدايات انهيار عدد من الوحدات العربية في جنوب الجزيرة العربية والهلال الخصيب والعراق وشمال أفريقيا. استطاع سعود الفيصل، بحنكته السياسية واتصالاته الواسعة وعلاقاته الممتدة بقادة دول العالم، أن يحول أولاً دون تمدد ظلال الاضطرابات التي عصفت بعددٍ من الوحدات العربية إلى منطقة الخليج، وأنْ يجعل بلاده في موقع التأثير في قلب النظام العربي.

والدلائل على ذلك أكثر من أنْ تُحصى في مقالٍ قصير. ولكن علينا أنْ نتذكر قيادة الفيصل للجهد السعودي ضد تمدد نفوذ جماعة الإخوان المسلمين في مفاصل النظام العربي، ومساندته القوية ودعمه الهائل لمصر في أزمتها السياسية التي أعقبت الإطاحة بحكم الإخوان المسلمين في يوليو 2013. ويرى المراقبون أنّه لولا الدعم السعودي، الذي كان عرّابه الأول أميرنا الراحل، لتحولت مصر إلى دولةٍ فاشلة، كما أرادها الإخوان، أو لاختبرت نفس المسارين الليبي والسوري.

وقد قادت فطنة العميد الدبلوماسية إلى تشكيل نواةٍ لتحالفٍ أو ائتلافٍ عربي مصغر، يضم، بالإضافة إلى المملكة العربية السعودية، دولة الإمارات العربية المتحدة ومصر والبحرين والكويت والأردن والمغرب. وقد تمكن هذا التحالف، على الأقل، من حصار الاضطرابات السياسية، والحؤول بينها وبين تهديد مجتمعات أعضائه. كما أنّ دارسي النظام العربي يعولون على هذا التحالف، الذي تقوده السعودية بحق، إيقاف تفكك النظام العربي ومنع انهياره، والحفاظ على هويته العربية المميزة له.

وليس هذا فحسب، بل تمكن الفارس، الذي ترجل أخيراً، من أنْ يضع بلاده في موقع التأثير العالمي، سواء من خلال نشاطها المكثف في المنظمات والمنتديات والفعاليات الدولية، أو من خلال عضويتها في مجموعة العشرين، أو من خلال دورها البارز في التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب.

ولن يستطيع أحد أن ينسى فضل العميد في إيقاف جحيم الحرب الأهلية اللبنانية، وإقناع الأطراف المتحاربة على الطريقة الهوبزية (حرب الجميع ضد الجميع) بالجلوس إلى مائدة المفاوضات، التي أسفرت عن اتفاق الطائف عام 1989. ويمثل هذا الاتفاق أبرز منجزات الدبلوماسية السعودية، فضلاً عن أنه أصبح الدستور غير المعلن للعملية السياسية اللبنانية.

غير أنّ دور أمير الدبلوماسية الراحل في عكس التدهور، بل ربما الانقلاب، الذي ألم بالعلاقات السعودية-الأميركية عقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر عام 2011- أقول: ربما هذا الدور هو أكبر منجزاته، ويستحق أن يُفرد له باب خاص به في تاريخ الدبلوماسية وتكتيكاتها. فقد بدت الأمور عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر أنها سائرة إلى قطيعة بلا رجعة بين الحليفين، المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة؛ على الأقل بسبب أن معظم المتورطين في هذه الأحداث كانوا سعوديين، بل إنّ زعيم تنظيم القاعدة السابق، أسامة بن لادن، كان يحمل الجنسية السعودية. غير أنّ العميد تمكن، في فترةٍ وجيزة، أن يعكس كل هذه الاتجاهات السلبية في العلاقات السعودية-الأميركية، وأنْ يعيدها إلى ما كانت عليه، بل وأفضل حالاً؛ حيث تتعاون الدولتان في الحرب على تنظيم داعش، وفي الملفات الساخنة في المنطقة جميعاً من ليبيا مروراً بسوريا والعراق إلى اليمن.

وربما كانت آخر خدمة أسداها أميرنا الراحل، ومليكه الذي سبقه بشهورٍ معدودة إلى الدار الآخرة، الملك عبدالله بن عبدالعزيز، إلى أمته العربية، وأشقائه في مجلس التعاون لدول الخليج العربية هو تلك المصالحة بين دول المجلس في اجتماع الرياض (نوفمبر 2014). وقد كان. فتصالح الأشقاء، وعاد السفراء إلى الدوحة، واتفقوا على وحدة الصف وجمع الكلمة في مواجهة التحديات الكثيرة والتهديدات الجمة التي تواجهها دولهم. وتضمن اتفاق الرياض التكميلي بنوداً واضحة في هذا الخصوص.

وهكذا هي مقادير الرجال العظام. يأبون أن يترجلوا إلا بعد أنْ يتأكدوا من وحدة الصف وجمع الكلمة، وإلا أنْ يخلفوا لوطنهم ولأمتهم تراثاً تظل تذكرهم به، وتنهل منه في مواجهة عالم مضطرب يزيد اضطرابه، وإقليم مشتعل تعتصره الأزمات والحروب من معظم أقطاره. كان أمير الدبلوماسية السعودية الراحل واحداً من هؤلاء. فرحمه الله رحمةً واسعةً.