هناك توقّعات الآن بحدوث تحرّك دبلوماسي أميركي مميّز ستقوم به إدارة أوباما لإيجاد تسوياتٍ سياسية لأزماتٍ مهمّة في منطقة الشرق الأوسط، بعد أن أنجزت هذه الإدارة الاتفاق الدولي حول الملف النووي الإيراني.
طبعاً، هناك تلازم وتفاعل بين كل الأزمات المشتعلة الآن في «الشرق الأوسط»، وحلُّ أيٍّ منها سيساعد على الحلول للأزمات الأخرى، لكن من المهمّ أن يسبق التحرّك الأميركي الجاد بشأنها تفاهمات مع موسكو وطهران حول آفاق التسويات وسبل تحقيقها. لذلك كانت أهمّية الاتفاق الأميركي/الروسي حول الملف النووي الإيراني، بمثابة المدخل لتفاهمات ممكنة حول أزمات المنطقة.
لكن مشكلة الرئيس أوباما في أجندته الشرق أوسطية، ليست مع خصومه الدوليين بل مع أقرب حلفائه الآن، حيث وجدنا اعتراضاتٍ علنية قاسية على هذه الأجندة من إسرائيل ومن يدعمونها في الداخل الأميركي.
الأشد خطورة على استراتيجية التحرّك الدبلوماسي الأميركي الآن مصدره إسرائيل، وما لديها من نفوذ سياسي وإعلامي مؤثّر في الولايات المتحدة وفي دول أوروبا، وقد كان رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو واضحاً وصريحاً في اعتراضاته على التقارب الأميركي/الأوروبي مع طهران.
إنّ إسرائيل تعمل منذ سنوات، خاصّةً منذ وصول نتنياهو للحكم في العام 2009، على جعل أولويّة الصراعات في المنطقة مع إيران وحلفائها بالمنطقة، وعلى إقامة محور عربي/إقليمي/دولي تكون إسرائيل فيه هي الرائدة لإشعال حرب عسكرية ضدّ إيران ومن معها في سوريا ولبنان وفلسطين، بحيث تتحقّق عدّة أهداف إسرائيلية مهمّة جداً لكل الاستراتيجية والمصالح الصهيونية في المنطقة والعالم. فالمراهنة الإسرائيلية هي على تهميش الملف الفلسطيني وعلى كسب الوقت لمزيدٍ من الاستيطان في القدس والضفة الغربية، وعلى تفجير حروب عربية داخلية بأسماء وحجج مختلفة.
كذلك راهنت حكومة نتنياهو على أنّ الحرب ضدّ إيران والتصعيد الدولي والإقليمي ضدّها سيوجِد لإسرائيل أدواراً كبيرة سياسياً وأمنياً في عموم المنطقة ومعظم دول العالم الإسلامي، وسيجعل من إسرائيل قوةً إقليمية ودولية كبرى في عصرٍ بدأ يتّسم بالتعدّدية القطبية، بحيث تكون إسرائيل عندها قادرةً على فرض «شرق أوسطي جديد» يسمح لها بتحقيق مشروعات اقتصادية متعدّدة تشمل بناء قناة بديلة لقناة السويس، تصل البحر الأحمر بالبحر المتوسط، إضافةً إلى استثمار منابع النفط والغاز في الشاطئ الشرقي للمتوسط، وما يمكن أيضاً أن تستثمره التكنولوجيا الإسرائيلية في البلدان المجاورة التي ستحتاج إلى الكثير من مشروعات الإعمار بعدما تضع الحروب الإقليمية والأهلية أوزارها.
ما سبق ذكره ليس من صنع الخيال، ولا هو افتراءاتٍ على ما تريده إسرائيل في هذه المرحلة، بل هو واقعٌ حاصل على الأرض منذ سنوات. فإسرائيل لن تخضع الآن للمطالبة الأميركية والدولية بوقف الاستيطان، ولن تقبل حتماً بتقسيم القدس ولا بحلّ قضية اللاجئين ولا بإقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة على حدود العام 1967، وهذه هي القضايا التي دار التفاوض بشأنها بين الفلسطينيين والإسرائيليين بضغطٍ أميركي.
ثمّ إن إسرائيل لا تجد مصلحةً إطلاقاً في وقف نزف الدم السوري، وفي إنهاء الأزمة الدموية السورية بتسوية تحافظ على وحدة الكيان السوري وتعيد بناء الدولة السورية على أسس سليمة، بينما يؤدّي استمرار هذه الأزمة إلى انهيار كلَّ المشرق العربي وحركات المقاومة فيه.
إذاً، هو تباينٌ كبير حاصلٌ الآن بين الاستراتيجية الإسرائيلية وبين أجندة إدارة أوباما التي تأخذ بعين الاعتبار المصالح الأميركية أولاً، تماماً كما فعل الجنرال دوايت أيزنهاور حينما كان رئيساً للولايات المتحدة بوقوفه ضدّ العدوان البريطاني/الفرنسي/الإسرائيلي على مصر في العام 1956، وأيضاً كما كان بعده الرئيس جون كنيدي، والذي بعد اغتياله قدّم نائبه جونسون أقصى درجات الدعم لإسرائيل وأدخل أميركا في حربٍ دامية بفيتنام.
ولعلّ من النتائج السياسية المهمة التي تحدث الآن في الولايات المتحدة ولا تأخذ أهميتها الإعلامية الكبيرة، هو هذا الفرز الذي يحصل في أميركا، بعد توقيع الاتفاق مع إيران، بين المدافعين عن المصالح الأميركية وبين الذين ينشدون مصالح إسرائيل أولاً.
وسيكون من الصعب التنبؤ بمصير «أجندة أوباما» الشرق أوسطية قبل انتهاء ولايته في مطلع العام 2017، لكن ما حدث من ردود فعلٍ أميركية ودولية مؤيّدة حتّى الآن للاتفاق الخاص بالملف النووي الإيراني، وما هو موجود من مناخٍ أميركيٍ شعبيٍ رافضٍ أيضاً لأي تورّط عسكري أميركي جديد في العالم، وما يرافق ذلك من متغيّرات سياسية في إيران، هو كلّه مزيجٌ مهمّ لإنجاح مراحل «الأجندة الأوبامية»، والتي ستكون أمامها عقبات كثيرة، بعضها خرج للعلن الآن، لكن يبقى الأساس في ضرورة مصارحة الرأي العام الأميركي بما يجهله من حجم التباين الحاصل بين المصالح الأميركية وبين الرؤى الإسرائيلية.