خيار التسويات هو المطلوب حالياً من قبل الأقطاب الدوليين حتّى لو كانت هناك «معارضات» لهذه التسويات على مستويات محلية وإقليمية. فالمراهنات العسكرية في أزمات سوريا واليمن وليبيا، وصلت إلى طريقٍ مسدود؛ بل أدّت المراهنات على الحلول العسكرية في السنوات القليلة الماضية إلى تصعيد العنف وإلى فتح أبواب المنطقة والعالم أمام قوى مسلّحة متطرّفة، في مقدمتها «داعش».

ويشهد العالم في هذه الفترة تحرّكاً دبلوماسياً كبيراً بشأن الملف السوري، بعدما حصل اتفاق الدول الكبرى مع إيران بشأن ملفها النووي، ثمّ الإعلان عن مبادرات دولية وإقليمية خاصّة بالأزمة الدموية السورية.

والأمر لم يكن هكذا في الأشهر والسنوات القليلة الماضية. فالتباين في المواقف؛ بين موسكو وواشنطن، قد بلغ في السابق درجةً كبيرة من السخونة، خاصّةً في الموقف من تطوّرات الأوضاع السورية.

لكن يبدو من مسار التطوّرات والأحداث المتتالية أنّ إدارة أوباما جعلت من تفاهمها مع موسكو بشأن الملف النووي الإيراني مدخلاً لتنفيذ أجندةٍ وضعها الرئيس الأميركي لنفسه في العام 2009 حين تولّى مقاليد الرئاسة الأميركية، ولم يتمكّن في فترة حكمه الأولى من تنفيذها لاعتباراتٍ أميركية داخلية ولظروفٍ دولية لم تكن مشجّعة آنذاك على تحقيق تسويات.

لم تجد الإدارة الأميركية الحالية أيَّ مصلحةٍ في تصعيد التوتّر مع إيران أو في تبنّي مقولة الحكومة الإسرائيلية بشأن استخدام الضربات العسكرية على مواقع إيرانية، بل نظرت إدارة أوباما إلى هذا العمل العسكري المطلوب إسرائيلياً كخطرٍ أكبر على أميركا ومصالحها من أيّة حربٍ أخرى خاضتها في المنطقة.

لذلك حصلت التفاهمات الأميركية/الروسية على كيفيّة التعامل مع الملف النووي الإيراني، وستكون العقبة الكبرى أمام أي صيغة تسوية سياسية جادّة للأزمة السورية هي في جماعات التطرّف المسلّحة على المستوى الداخلي.

لكن هل هذه التسويات السياسية الممكنة الآن لأزماتٍ في المنطقة ومحيطها تعني «برداً وسلاماً» للأوطان العربية وشعوبها؟ الإجابة هي في الحدّ الأدنى بنعم، وفي ظلّ الظروف العربية السلبية القائمة حالياً وما فيها من مخاطر أمنية وسياسية على الكيانات الوطنية؟!.

إنّ الأوطان العربية مهدّدةٌ الآن بمزيدٍ من التشرذم، ليس حصيلة التدخل الأجنبي والدور الإسرائيلي فقط، بل أصلاً بسبب البناء الهش لدول هذه الأوطان، ولما فيها من تخلّف فكري في مسائل فهم الدين ومسألة الهويّات المتعدّدة للإنسان.

أيضاً، المنطقة العربية لم تستفد بعد من دروس مخاطر فصل حرّية الوطن عن حرّية المواطن ومن انعدام الممارسة الصحيحة لمفهوم المواطنة. ولم تستفد المنطقة أيضاً من دروس التجارب المرّة في المراهنة على الخارج لحلِّ مشاكل عربية داخلية. والأهمُّ في كلّ دروس تجارب العرب الماضية، والتي ما زال تجاهلها قائماً، هو درس مخاطر الحروب الأهلية والانقسامات الشعبية على أسسٍ طائفية أو إثنية، حيث تكون هذه الانقسامات دعوةً مفتوحة للتدخّل الأجنبي ولهدم الكيانات والمجتمعات العربية.

ثمّ، أليس ملفتاً للانتباه ما ظهر الآن، في العالمين العربي والإسلامي، من «إسرائيليّات» فاعلة بكثافة، حيث نجد عرباً ومسلمين يقومون بخوض «معارك إسرائيليّة» تحت رايات الديمقراطية أو الدين أو الطائفة، وهم عمليّاً يحقّقون ما يندرج في خانة «المشاريع الإسرائيليّة» للمنطقة، من سعي لتقسيم طائفي ومذهبي وإثني يهدم وحدة الكيانات الوطنيّة ويقيم حواجز دم بين أبناء الأمّة الواحدة.

أليس تسليح بعض الجماعات الدينية المتطرفة ودعمها مالياً وإعلامياً هو فائدة إسرائيلية كبيرة، حيث تشترط إسرائيل الآن على الفلسطينيين الاعتراف بها كدولة «يهودية»، وهذا يتطلّب حتماً وجود دويلات أخرى في المنطقة على أسس دينية وطائفية؟!.

أليس تهميش الصراع مع إسرائيل هو مصلحة إسرائيلية، بينما يتمّ إصدار الفتاوى للتحريض على استخدام العنف في صراعاتٍ عربية داخلية؟! .

كم هو مؤسفٌ ومذلٌّ للإدارة الأميركية أيضاً رؤية «اللوبي الإسرائيلي» يتحرّك في واشنطن مع كل أعضاء الكونغرس لمنع التصديق على الاتفاق الدولي مع إيران، تماماً كما فعل هذا «اللوبي» سابقاً للتحريض على ضربات عسكرية أميركية ضدّ سوريا في نهاية العام 2013!.

مشروع التسوية السياسية للأزمة السورية هو الآن بصيص نورٍ خافت في نفقٍ عربيٍّ مظلم، وستكون هذه المهمّة الصعبة في حال نجاحها بدايةً لتسوياتٍ إقليمية عديدة في المنطقة، ولاجماً كبيراً لأفكار وممارسات تفتيتيّة لشعوب ودول المنطقة العربية والعالم الإسلامي، لكن البديل عنها، في حال فشلها، هو مزيدٌ من الدّم والدّمار، ومن اتّساع رقعة الصراعات، ومن استنزاف للثروات العربية، ومن تهجير لمزيدٍ من مئات الألوف من المواطنين العرب الأبرياء الذين هم الآن ضحايا لسوء أوضاع أوطانهم، ولصراعات القوى الإقليمية والدولية على هذه الأوطان ومواقعها وثرواتها.